«غريم الشعب» في قفص الاتهام

«غريم الشعب» في قفص الاتهام - سامي غالب

يعيش الزميل عبدالكريم الخيواني أيامه الحلوة!
صباح أمس جلس إلى جواري في قاعة محكمة غرب العاصمة ليشد من أزري، هو الخبير بمواجهة ملاحقات قضائية من كل الأصناف.
كنت أعيش دور المتهم لأول مرة منذ بدأت العمل الصحفي قبل 13 عاماً. وكان الخيواني نعم النصير. جلس مسترخياً إلى يساري في انتظار المناداة باسمي. كانت قائمة القضايا المنظورة في الجلسة طويلة جداً، وكنت أقبع في ذيل القائمة، فالمصائب لا تأتي فرادى! ولكسر الرتابة، اضطررنا، الخيواني وأنا، أن نظهر اهتماماً شديداً بالقضايا التي ينظر فيها القاضي الجنائي أديب باحارثة.
لم يحن بعد دور «النداء». وبعد عدة قضايا منظورة، تبادلنا الابتسامات. كانت جميعها تتعلق بتوزيع أو عرض أفلام خلاعية، ما يفيد بأن نيابة الصحافة والمطبوعات تتعمد إدراج قضايا الصحافة ضمن جرائم الآداب. لم لا؟ فنقد الحكومة ضرب من قلة الأدب ونقص التربية في عرفها. آية ذلك أن النيابة منذ حرب 1994 لم تقِّرر مرة واحدة أن لا وجه لإقامة الدعوى ضد صحيفة معارضة أو أهلية. أقله من باب التشويش على الزاعمين بتبعيتها لكبار موظفي الحكومة وصغارهم.
كل شكوى من مسؤول حكومي ترد إلى النيابة التي أنشئت مطلع التسعينات تكريماً لخصوصية مهنة الصحافة (!)، تتحول تلقائياً إلى دعوى قضائية. وفي قضية «النداء» كابدت النيابة كثيراً -لأسباب بعضها مفهوم- قبل أن تحيل شكوى الوكيل السابق لوزارة الأوقاف حسن الأهدل، إلى المحكمة.
للتفصيل، فقد شكا الأهدل (ولكن باسم الوزارة) من أن «النداء» اعتدت عليه بالسب في تحقيق نشرته عن فساد في قطاع الحج والعمرة بالوزارة. وبدأت النيابة التحقيق معي في هذه التهمة في نهاية ديسمبر عام 2006.
بعد جلستي تحقيق، بحضور المحامي نبيل المحمدي، طلب عضو النيابة المحقق مستندات الصحيفة فيما نشرت من حقائق. وقد زودته الصحيفة بنحو 18 مستنداً، بينها صور للمعتمرين والحجاج خلال الموسم قبل الماضي تبيِّن المهانة التي يعيشونها جراء سياسات الوزارة البريئة من أية شبهة!
حررت النيابة مذكرة إلى الشاكي (وكيل الوزارة) لغرض التحقق من صدقية الوثائق والصور التي قدمتها الصحيفة وسؤاله عن محتوياتها. لأسباب أجهلها امتنع الشاكي عن المثول أمام النيابة مرتين. ولأن الشاكي المطلوب للمثول أمام النيابة ليس صحفياً، وبالتالي ليس فتى الضرب في «حلبات الملاكمة» القضائية، فإن عضو النيابة لم يسارع كما يفعل في العادة، إلى تحرير أمر قبض قهري بحق الرجل، ولم يفكِّر في غلق ملف شكوى ضد صحيفة أهلية، بل قرر تحريك دعوى قضائية ضدها ممثلة برئيس تحريرها.
قرَّر ألاَّ يرتكب مخالفة مرورية، ومضى قدماً في الطريق ذي الاتجاه الواحد: إرسال الصحفي إلى قفص الاتهام، بتهمة سب وزارة الأوقاف.
كنت أنعم في سبات هني، راكناً إلى الأداء الرفيع للمستشار القانوني لـ«النداء»: صديقي المحامي نبيل المحمدي، علاوة على حزمة مستندات، ومظاهر ود واحترام يبديها وكيل النيابة السابق الأستاذ محمد بن سهل، وعضو النيابة المحقق نبيل الأديمي. ولاحقاً فاجأني المحققان المتلطفان بالحجة الدامغة التي وضعت حداً لأرقامي القياسية المتتابعة على مدى 13 عاماً.
قالا إن الوثائق التي جلبتُها إليهم ليست أصلية، ما يعني لزوم مثولي أمام القاضي الجنائي فهجست: ما أجمل اللقيا بلا ميعاد!
«النداء» التي ارتادت مناطق شائكة، وعبرت حقول ألغام، ودخلت أقبية الأمن وفتحت ملفات ملغومة، «النداء» المثقلة بالديون، المرشحة للانضمام إلى أحبتها المعسرين في السجون، الطريدة المهددة بالاختفاء القسري، تقع أخيراً في المصيدة، وتساق إلى قفص تم تصميمه من قضبان «قانون الأمر الواقع» في موضع يقع غربي العاصمة. كم هي محظوظة!
بعد نحو عام من إحالة الملف إلى المحكمة، تم استدعائي للعب دور المتهم. وقد توجب عليَّ في جلسة أمس أن أتواضع قليلاً وأنا انتظر دوري بعد قائمة من المتهمين بنشر وبث مواد مخلة بالآداب.
وقد وجدنا، الخيواني وأنا، العزاء في «غريم الشعب»: المتهم الذي يسبقني مباشرة. نادى القاضي على المتهم فهد القرني صاحب العمل الفني الساخر «غريم الشعب».
لم يكن القرني متواجداً في القاعة، ولكن شركاءه الخطرين امتثلوا لنداء العدالة. وهم يتوزعون بين أصحاب محلات تسجيل أو باعة في الجولات.
والحق أنني شطحت قليلاً إذْ تخيلت «غريم الشعب» ماثلا حقاًً أمام العدالة.
كان الخيواني صاحب الخبرة الطويلة والمثيرة في أداء دور المتهم قد غادر قاعة المحكمة عدة مرات خلال «انتظارنا المستدام». وفي المرة الأخيرة التي عاد فيها إلى القاعة كان يحمل أنباءً سارة. قال لي: اكتشفت أنني مطلوب لدى هذه المحكمة في دعويين جديدتين من وزارة الدفاع.
كان ذلك عزائي الثاني. لم تتح لي فرصة الابتسام هذه المرة، فقد سمعت القاضي ينادي باسمي.
وقفت أمام عدالة المحكمة. وبعد التحقق من هويتي، سأل القاضي عضو النيابة: أين المجني عليها؟ دققت في يديَّ فلم أجد آثار دماء، ثم تلفتُّ حولي فلم تقع عيناي على الضحية المفترضة.
قرَّر القاضي تحديد موعد لجلسة أخرى إلى حين استقدام الضحية المجني عليها.
لم أكن لأشعر بالإثم حيال ما ارتكبت يداي من فظاعات. على أن نوبة حزن دهمتني وأنا أغادر قاعة المحكمة، موقناً بأنني سأرتادها مراراً عما قريب ليس كمتهم ولا كجان، ولكن لأداء الدور الذي خبرته جيداً في السنوات الثلاث الماضية، متضامناً مع صديق كريم تلاحقه الوزارات السيادية والهيئات العليا والأجهزة الأمنية في ساحات العدالة، وفي الطرقات، وعند عتبات بيته، وأحياناً في غرفة نومه. وصباح اليوم سأواصل لعب دوري الأثير في قاعة المحكمة العليا التي تنظر في دفع آخر للخيواني الذي بات نجماً لامعاً عند حراس المحاكم وأمناء أسرارها، وأصحاب فضيلة من كل صنف ومرتبة. سأجلس إلى جواره أملاً أن تصمد أرقامي القياسية لفترة طويلة، معولاً على التزام الأصدقاء في نيابة الصحافة بالقواعد المرعية، وخاصة التزام السير في اتجاه واحد!
Hide Mail

* يحظر إعادة نشر هذه المادة بغير إذن من الصحيفة.