الفرصة الأخيرة للرئيس صالح.. أن يدين حرب 94 ويهيئ البلاد لمصالحة وطنية

الفرصة الأخيرة للرئيس صالح.. أن يدين حرب 94 ويهيئ البلاد لمصالحة وطنية - طاهر شمسان*

لم توقع الجبهة القومية لتحرير جنوب اليمن المحتل على وثيقة استقلال "الجنوب العربي" إلا بعد أن أنهت نحو ثلاثة قرون من التجزئة (1686- 1967) لصالح جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية. وعليه فإن يوم 30 نوفمبر1967 لم يكن بالنسبة للجنوب يوم استقلال فحسب وإنما كان يوم توحيد و"يمننة". فالوحدة اليمنية بدأت -عمليا- في الجنوب، وتحولت إلى قضية وطنية عامة يحمل رايتها -رسميا- الحزب الاشتراكي اليمني الذي تمتع الشماليون في ظل دولته بكامل حقوق المواطنة وتقلدوا أعلى المناصب في الحزب والدولة. وكانت عدن معملا وحدويا يعزف على إيقاعات الوحدة ليل نهار، حتى ترسخت النظرة الدونية للتشطير عند كل جنوبي. فالوحدة تخلقت وترعرعت وشبت في عدن، حلما وتفكيرا وتنظيرا وإعلانا.
 وباستثناء فترة الحمدي، لم يقترب الشمال الرسمي جديا من قطار الوحدة إلا بعد أحداث يناير 1986. ففي عام 1979 قدم عبد الفتاح إسماعيل –والجنوب في أوج قوته العسكرية- عرضا مغريا للرئيس صالح كي يقبل بالوحدة. غير أن هذا الأخير التفت إلى معسكراته. ولمّا لم يرَ فيها ما يشجعه على الدخول في الوحدة فضل التريث حتى يرتب أموره. فالوحدة بالنسبة له خيار عسكري إلحاقي وليست خيارا سلميا توافقيا. وعندما أيقن أن ميزان القوة العسكرية بات لصالحه ذهب في 30 نوفمبر 1989 إلى عدن يحمل مقترحا باتحاد فيدرالي مع الجنوب. وبحسن نية رد البيض التحية بأحسن منها, وحقق للشعب اليمني وحدة اندماجية, على أن لا تكون دولة الوحدة هي دولة الشمال ولا هي دولة الجنوب, وأن يأخذ النظام الجديد بأفضليات النظامين السابقين.
 وحالما انتهى الرجلان من التوقيع على اتفاق 30 نوفمبر 1989 عقدا مؤتمرا صحفيا قال فيه الرئيس صالح: "إن قوى دولية كانت تغذي الأوهام والشكوك التي تعيق إعادة مسيرة الوحدة اليمنية بطرق مباشرة وملتوية. إلا أننا شبّينا عن الطوق وشعرنا بمسؤولياتنا وذلك تحسبا من ضغط الجماهير التي تناشد وتهدر في كل من شمال الوطن وجنوبه بإعادة الوحدة". ومن جانبه ركز البيض بشكل خاص على بعدي الديمقراطية والشراكة قائلا: "نحن نربط ربطا وثيقا بين الديمقراطية والوحدة. وأعتقد أن هذا هو الجديد. والشيء الآخر, واقتنعنا، نحن القيادتين، به, هو أننا شركاء".
 والواضح من كلام البيض أنه ذهب إلى عاصمة دولة الوحدة معلقا آماله على الديمقراطية والشراكة بين الحزب الاشتراكي والمؤتمر الشعبي العام. ويعلم الرئيس صالح علم اليقين أن شريكه قدم لدولة الوحدة دولة كاملة السيادة وثلثي الأرض والثروة، وأنه بالتالي لن يقبل بأقل من الرقم 2، إلا في ظروف اشتغال ديمقراطي طبيعي لكل مؤسسات الدولة والمجتمع المدني. وأن الشراكة هي الأصل في اتفاقية الوحدة. أما الديمقراطية الحقيقية لا تكون ممكنة إلا في ظل دولة مقسومة على الجميع وليس على 2.
 ويبدو أن البيض كان في غاية الاطمئنان عندما أبرم صفقة الوحدة مع الرئيس صالح، معتقدا أن هذا الأخير قبل بمبدأ الشراكة معه, وأنهما سيسيران معا حتى النهاية وسيدخلان معا التاريخ من أوسع أبوابه كموحدين لليمن. ومن المرجح أن الرجلين وضعا يديهما في يدي بعض لحظة إنفرادهما بقرار الوحدة واتفقا على بعض الأمور التي بدت لهما جوهرية في تلك اللحظة المتسمة بالصفاء والمفعمة بالحماس. يؤكد هذا رواية للرئيس صالح تقول إنهما قبيل التوقيع على اتفاقية الوحدة "أقسما على أن لا يخون أحدهما الثاني وأن يعملا بروح الفريق الواحد وآلية القيادة الجماعية...". غير أن واقع الممارسة في ظل دولة الوحدة سار على نحو مختلف. فالرجلان اختلفا لمرتين وتصالحا ثم اختلفا وقادا البلاد إلى حرب داخلية طاحنة. واختلفت أيضا قراءات اليمنيين لما حدث بسبب اختلاف مواقع الناس في الطرفين.
 ولأن السياسة تعرف بنتائجها لا بمقدماتها، فإن خبرة السنوات التي أعقبت حرب صيف 1994، وطبيعة الحراك الجاري الآن في المحافظات الجنوبية، يقدمان دليلا قاطعا مانعا على أن تلك الحرب كانت ضد وحدة 22 مايو كوحدة مقسومة على 2 لصالح وحدة مقسومة على 1، أي أنها حرب إقصاء واستئثار وطنت براميل التشطير في العقول والنفوس وأوصلت الوحدة الوطنية للبلاد إلى غرفة العناية المركزة.
 فعلى غرار الإمام يحيى الذي أحيا حروب الفتوحات ضد "كفار التأويلـ"، تفتقت عبقرية أحفاده الجمهوريين عن حرب الردة والانفصال ضد "الملاحدة والشيوعيين". فالكل ينتمي إلى مدرسة الإمام الهادي مع الاختلاف في الوعي بالانتماء.
 ومثلما اعتقد الإمام يحيى أن "العناية الإلهية" هي التي بعثته لتنفيذ شرع الله في مناطق "كفار التأويلـ"، بينت خبرة السنوات الماضية أن الرئيس صالح لم يذهب إلى عدن في نوفمبر 1989 كرئيس للدولة الشطرية في الشمال، وإنما كزعيم تاريخي جاد به الدهر ليخلص شعب الجنوب من "طغيان الاشتراكيين" الذين ارتعدت فرائصهم عندما هم القائد الملهم بإلقاء خطاب أمام الجماهير المحتشدة في ميدان الحبيشي فحالوا بينه وبين ما أراد حتى لا يفقد الحزب والدولة السيطرة على الجماهير التي تهدر مطالبة بالوحدة.
 لقد اعتقد الرئيس صالح أن إجماع الجماهير على الوحدة هو إجماع عليه، فخلط بين الذات والموضوع، حتى أصبح هو الوحدة والوحدة هو. وأي اختلاف معه هو اختلاف مع الوحدة يلقي بصاحبه تلقائيا في مربع الانفصال. إننا هنا أمام نمط من التفكير لا يرى الأشياء كما هي وإنما يؤولها طبقا لما يدعيه. وحسب هذا التفكير لم يقبل الحزب الاشتراكي اليمني بالوحدة لأنها قضيته الاستراتيجية التي بنى وجوده كحزب سياسي عليها، وإنما قبلها وهو يضمر العودة إلى الخلف حالما يتخلص من أزماته وأسباب ضعفه. وحتى لا يفهم أننا نسخر من عقول أولئك الذين صدقوا هذه الأطروحة سنفترض أنها أفصحت عن جزء من الحقيقة للتعمية على جزء آخر مؤداه أن الرئيس صالح لم يقدم على الوحدة إلا عندما مالت موازين القوى في شطري اليمن لصالحه وعندما أصبح لديه جيش قوي يمكن الركون عليه ويدين له بالولاء الكامل. وواقع الحال اليوم يؤكد هذه الحقيقة. فالجماهير التي "تهدر" في المحافظات الجنوبية مطالبة بحقوقها المادية والمعنوية هم مجرد "ضعفاء نفوس"!
 ومن بين التأويلات التي استخدمت لمعاكسة الواقع والتهيئة لحرب صيف 1994 القراءة الذاتية لنتائج انتخابات أبريل 1993 النيابية واتهام الحزب الاشتراكي باستمرار الروح الشطرية وعدم قدرته على الانتشار خارج مناطق نفوذه التقليدية. غير أن الأرقام قدمت حكما مغايرا لهذه القراءة وبينت أن 49% من إجمالي أصوات الحزب الاشتراكي جاءته من المحافظات الشمالية. بينما لم يحصل حزب المؤتمر في المحافظات الجنوبية إلا على 9% من إجمالي أصواته. ما يعني أن هذا الحزب كان حينها حزبا شماليا في مواجهة حزب وحدوي بنى حياته كلها على الوحدة اليمنية ولا يستطيع أن يعيش إلا بها ولا أن يتنفس إلا من خلالها. وهو الحزب الوحيد الذي دفع ولا يزال يدفع ثمن وحدويته, وثمن أدائه الانتخابي الجيد في المحافظات الشمالية الذي جعل قيادة المؤتمر الشعبي العام تتوجس خيفة من الديمقراطية في ظل التوازنات الناجمة عن وحدة 22 مايو 1990، وأيقنت أن النجاح الانتخابي النسبي الذي تحقق لها عام 1993 (122 مقعدا) سوف يتراجع في حال بقيت التوازنات على ما هي عليه. وقد شكلت هذه المخاوف أحد الحوافز القوية لحرب 1994.
 إن حرب 1994 لم تحقق الغرض السياسي المعلن لتبرير قيامها، وهو تثبيت دعائم الوحدة الوطنية والعودة إلى الموقف الدستوري. لكنها فعلت العكس وخلقت ما يسمى بـ"المشكلة الجنوبية". وهذه المشكلة لن تحل بمبادرات رئاسية ووعود بحكم محلي واسع الصلاحيات يعلم الشماليون قبل الجنوبيين أنها مجرد مناورة لاحتواء الحراك الجماهيري في المحافظات الجنوبية، وأن شيئا منها لن يتحقق.
 إن الشماليين ضد الانفصال، والجنوبيون ضد الوحدة التي تقوم على القوة والقهر والظلم، ولن يكونوا سعداء إذا أحسوا أنهم يعاملون كمغلوبين, وإذا استمرت الأوضاع على ما هي عليه سوف يقاومونها بكل الوسائل المتاحة. وكل المؤشرات تدل على أنهم (الجنوبيين) تجاوزوا حاجز الخوف الذي صنعته الحرب, وأسقطوا رهان مشعليها على عامل الزمن الذي سيحول المحافظات الجنوبية إلى تهامة جديدة. صحيح أن المعاناة واحدة، لكن ضحاياها مختلفون، وستختلف بالتالي ردود أفعالهم. فعكفي الإمام لم يتدخل في تشكيل شخصية الإنسان الجنوبي، والرهان على أثر مدافع حرب 1994 أسقطه بارجاش ورفاقه. وإذا كان الجنوبيون أقلية سكانية فلا أحد يستطيع أن يجبرهم على مسايرة استسلام الأغلبية لقدرها ورفع شعار "غيرنا مثلنا".
 إن الوحدة الحقيقية هي التي تحمي نفسها بالحوار وبرضا الجميع ومشاركتهم في بنائها والحفاظ عليها. وفي القضايا الوطنية الكبرى لا يمكن اعتبار الحوار السلمي والبناء تنازلا أو رضوخا بل هو عين العقل. والقادة العظماء في كل مكان وأوان هم القادرون على جعل الوحدة في أوطانهم نسيجا قويا لا شعارات مهترئة.
 إن اليمنيين جميعهم مهزومون وجميعهم مطالبون بفتح صفحة جديدة لعلاج الجراح وإزالة الأحقاد. والخطوة الأولى والأساسية هي تحقيق مصالحة وطنية حقيقية. والمصالحة تحتاج إلى طريقة تفكير جديدة. وطريقة التفكير الجديدة تبدأ بأن يقتنع الرئيس صالح أن اليمن ليست مصر، وأن اليمنيين لم ينتجوا زعماء جامعين على شاكلة عُرابي وزغلول ومصطفى كامل وجمال عبد الناصر الذي تعذر على ابنته أن تلتحق بجامعة القاهرة لعدم كفاية معدل النجاح في الثانوية وأبوها ملك متوج في قلوب ملايين العرب.
 نحن، اليمنيين، لم ننصهر بعد في شعب أو أمة. وإذا أراد الرئيس صالح أن نجمع عليه كزعيم فليساعدنا على الإندماج، لا أن يتركنا نتمزق ونتناحر، ويطلق العنان لوسائل إعلامه كي تسخر من تحالف الاشتراكي والإصلاح، وتتشفى مما حدث بعد مهرجان التصالح في ساحة الهاشمي بالشيخ عثمان.
 ليس صعبا على الرئيس صالح أن يصبح زعيما جامعا إذا توفرت لديه الإرادة. وقد أتيحت له فرص كثيرة لم يستثمرها. وأمامه الآن فرصة واحدة، فقط تحتاج إلى شجاعة نادرة: أن يدين حرب 1994 ويعلن استعداده لمصالحة وطنية حقيقية تفضي إلى بناء دولة مواطنة متساوية. إذا تم مثل هذا فهو كفيل بجبر الخواطر وتهدئة النفوس في المحافظات الجنوبية. واليمنيون لا يهمهم من يحكمهم وإنما كيف يحكمهم. وبعدها لكل مقام مقال.
 
* صحفي يعمل في الفضائية اليمنية
tahershamsanMail

* يحظر إعادة نشر هذه المادة بغير إذن من الصحيفة.