فصيلة اعدام انطلقت من ذمار واغتالت صلاح الرعوي داخل.. مبنى البحث الجنائي في إب على وقع الزوامل والبرع.. حُلمٌ سقفه الموت!

- إب - إبراهيم البعداني  -  صنعاء - محمد العلائي
لم يكن صلاح الرعوي ليشعر بالخوف، لأنه بات في كنف الدولة.. إنه في سجن البحث الجنائي الحصين. لكن الأمور أخذت منحى درامياً فظيعاً.
في صباح 14 من الجاري (رابع أيام العيد) انطلقت (فصيلة الاعدام) من ذمار لم يقف في طريقها أي عائق يذكر. انها فصيلة رفيعة المستوى: مدير البحث الجنائي بذمار، مدير أمن جامعة ذمار، واستاذ جامعي، وبمعيتهم أزيد من 10 مسلحين.
اجتازت نقاط التفتيش بسلاسة، كما اجتازت قانون منع السلاح، الذي خفض الجريمة بنسبة 60٪_، بالبيادات. فالرتب العسكرية العالية كانت كفيلة بتذليل كافة الصعاب التي قد تحول دون أداء المهمة على أكمل وجه.
وبالفعل سار الأمر كما خطط له تماماً. كانت ال6 صباحاً عندما وصلت فصيلة الاعدام الى مدينة إب. كان الوقت مبكراً للغاية، لكن لم تكن قلوبهم لترق مع نسمات الصباح العليل. لقد كانت متعطشة لمشهد دموي مريع.
أخذ مدير بحث ذمار يقدم نفسه للضابط المناوب في مبنى بحث إب. أدى الضابط التحية العسكرية المضادة للشخصية الأمنية الرفيعة:أهلاً وسهلاً يا فندم.. أي خدمة؟
- لا والله، ما بلا كنا نشتي نبصر صلاح الرعوي.. قالوا انه موقف عندكم.
- أيوه يا فندم موجود.
- طيب ممكن نشوفه.
- على طول يافندم.. يا عسكري هات صلاح الرعوي بسرعة.
بعد بضع دقائق أطل صلاح قادماً من زنزانته- كان بالكاد يحمل جسمه النحيل، وهو يتثاءب.
- ها هو أنت صلاح الرعوي.. أهلاً وسهلاً.
 تلفظ بها أحدهم بنبرة مستهترة.. وفي تلك اللحظة أشهروا الجنابي وسددوا بضعة طعنات في جسد صلاح. احتفظت فصيلة الاعدام برباطة جأشها وتوازنها العصبي أثناء تمزيق صلاح.. لم يرمش لها جفن قط.. كانوا هادئي البال. وقتلوه برواق.
أحدهم وجد أن الطعن وحده لا يكفي كي يشفي غليله، اذ ارتأى أن عليه تصويب سلاحه الناري الى جبين صلاح الشامخ.. أطلق رصاصات الختام، ليسدل الستار على مشهد مكتمل التفاصيل.
خر صلاح صريعاً في غرفة الضابط المناوب، تحت سقف البحث الجنائي الذي يسهر على أمن المخلوقات.
انتاب الجناة احساس عارم بالنصر. يقول (ح. ش)2 أحد شهود العيان: «بعد لحظات شوهد الجناة يبترعون (يرقصون) داخل فناء البحث، ويلوحون بالجنابي في الهواء» ويرددون زوامل منتشية بالنصر العظيم، لقد أزهقوا روح الدولة قبل أي شي آخر.
لا بد أنهم كانوا في ذروة السعادة. فهم أنجزوا مشهداً دموياً وراقصاً في نفس الآن. ياللفظاعة. وفور إنهائهم مراسم الاعدام استقلوا سيارتهم ليبدأوا رحلة الإياب في غفلة من القوم.
في الأثناء، اعتلى رجل أمن طقم الحراسة وصوب الرشاش الى أفراد العصابة.. استطاع أن يحول دون فرارهم، واقتادهم الى السجن لكنهم كانوا اكثر سطوة ونفوذاً مما يتصور ذاك المسكين.
فبعد 24 ساعة فقط من اعتقالهم، تدخلت أقدارهم الشخصية في اطلاق سراحهم. فاستعادوا غبطتهم المفقودة.
لا شك أن قصة صلاح عبده سعيد الرعوي (45 عاماً) ليست نادرة الحدوث في البلد، بيد أنها ذات مذاق فريد.. إنها قصة تحمل اكثر من بعد!! فإلى كونه قتل في كنف الأمن، والى اجتياز فصيلة إعدامه نقاط التفتيش بأسلحتها النارية بأمان، وتواطؤ اجهزة الامن الأخرى في الجريمة، هناك ايضاً قضية شديدة التعقيد والخطورة- البسط على أراضي إب. ومقتل صلاح واحدة من إفرازاتها المثيرة للفزع.
في 1984 اشترى الرجل قطعة أرض في منطقة الجباجب، غرب المدينة، ومذاك ظل صلاح يوليها رعاية خاصة.
كانت إمكاناته شحيحة، ولم يكن بمقدوره تشييد حلم العمر: بيت يضمه مع اولاده وزوجته.
لهذا السبب واظب على زراعتها وفلاحتها ريثما يستطيع امتلاك تكاليف البناء.. صلاح مواطن بسيط جداً، وحياته برغم ذلك، كانت مستقرة ومنذ 4 سنوات تقريباً بدأت المنغصات تثقل كاهله.
أغفلنا أمراً مهماً: معظم أراضي إب تمتلكها الأوقاف، ولهذا تتصاعد بين الفينة والأخرى، روائح فساد كريهة من مكتب أوقاف إب.
بالطبع صلاح اشترى قطعة من الأوقاف، تحت مسمى «إجارة تمليك» وهذه كانت بمثابة الثغرة التي تسربت منها أيامه.
في 2003 اعترض هدوء صلاح شخص يدعى العقيد محمد البداء، وهو سكرتير المكتب التنفيذي لمحافظة إب، هذا الرجل أراد أن ينازع صلاح في أرضه.
العقيد من ذمار، وهو رجل نافذ. ولئن كان العقيد لا يريد تجشيم نفسه أي عناء كي يحصل على قطعة أرض مغرية فقد راقت له فكرة مساومة صلاح.
عندما اختمرت الفكرة في ذهنه، قصد، في أحد أيام 2003، قرية صلاح.. تقول زوجة صلاح التي كانت تتحدث الأسبوع الفائت لـ«النداء»: «جاء يطلب تسليم الأرض، لكن زوجي رد عليه: لا..هذه أرضي اشتريتها ولن أفرط في شبر واحد منها». انه رجل لا يقبل المساومة كما يبدو، غير ان «الكولونيل» لم ييأس.
«عاد الفندم بعد أسبوع يسأل عن صلاح للمرة الثانية، وكرر نفس الطلب، فأكد صلاح رفضه المطلق، فغضب الفندم وقال «طيب با خليك تتنازل.. وبا تشوف»، وفقاً لرواية أم حبيب رفيقة درب القتيل.
لم يأخذ صلاح التهديد على محمل الجد، لذا لم يأبه له كثيراً. بعدما مضت 10 أيام عاود العقيد ورجاله الكرة على القرية. وهذه المرة لم يجد صلاح «قام الفندم يضربني من أجل نتنازل عن الارض» تقول أم حبيب والحزن بادٍ على وجهها.
الواضح أن «الفندم» كان يمارس ضروباً من الضغط على صلاح، حتى بضرب زوجته، عند كل مرة يأتي ولا يجده ماثلاً أمامه.
«ضربوني 3 مرات، وزوجي يزداد تمسكاً بأرضه» أضافت لم يؤثر صلاح الصمت، لدى سماعه بواقعة ضرب زوجته. فقد فضل اللجوء للقضاء. وحينما قدم بلاغاً الى نيابة جبلة صدمته الأخيرة برد صاعق: لا نستطيع الوقوف في وجه عقيد من الحداء».
وفقاً لأم حبيب، فإن العقيد محمد البداء ومرافقيه اختطفوا صلاح في 2006 وسلموه الى نيابة جبلة- ولأنه ليس «عقيداً من الحداء» أودعته النيابة في السجن لمدة 5 أشهر.
تقول زوجته: إنه تعرض في السجن للضرب، وعندما أفرج عنه كان في حالة يرثى لها؛ ومنذ ذلك الحين بدأت صحته تزداد تدهوراً يوماً عن يوم، كان صلاح يتشبث بحقه في الأرض، لا أكثر ولا أقل.
«بعد أن يئس من اقناع زوجي بالتنازل عن الأرض استخرج الفندم إجارة تمليك من الأوقاف» تتحدث أم حبيب بصوت محتج، لكنه شاحب. وفي ضوء هذا التمليك بدأ العقيد فصلاً جديداً من الضغط.
تتهم أم حبيب عبدالحميد الأشول مدير أوقاف إب السابق بالتواطؤ مع خصمهم: «الأشول هو سبب كل هذه المشاكل، فمن يوم عمل إجارة فوق حقنا الإجارة ما حصلنا عافية».
صلاح ألفى نفسه في خضم مواجهة غير متكافئة ولا هداوة فيها، وعندما اشتد عليه الخناق قرر الحصول على ترخيص للبناء، إلا أنه لم يحظ بما أراد. لهذا.. و بدافع من القلق، قام ببناء غرفة وسط الارض كي يقطع الطريق على كل النهابة؛ تلك الغرفة أصبحت مأوى له ولأولاده وجدرانها تكتظ بصور الرئيس.
بعد زمن قصير شرع صلاح في بناء منزل صغير، وحين لم يتبق سوى السقف طالته يد الهدم. كان سقفه الموت.
الى 2003 كانت النكبات التي نالت من صلاح تمر بإيقاع بطيئ.. ومنذ تلك الليلة المشؤومة بدأت وتيرة الاحداث تتسارع، الواحد تلو الآخر.
ففي الساعة ال11.30 ليل الأحد ال 13 من الجاري، كان الظلام المتجهم يرخي بوطأته على ليل إب، حين أخذت عصابة مسلحة تبعثر أحجار البناء الذي لم يكتمل.
كان صلاح يغط في نوم عميق فبترت أحلامه من المنتصف.. تقول زوجته: «كنا نائمين وفجأة سمعنا صوت البلوك والخشب يتساقط، فظن زوجي أن هناك لصوص يشتوا يسرقوا الخشب والاسمنت. كانوا كثير فحاولت أن أمنع زوجي من الخروج إلا أنه أصر، وبعدما خرج وجدهم يخربون البيت، فأخذ سلاح آلي وأطلق رصاصة واحدة الى الهواء، وعندما سمعوا الطلقة هربوا من جوار البيت».
تواصل أم حبيب : «بعدها قمت بأخذ الآلي من زوجي وادخلته ولما عدت كان صلاح يشير الى الخراب ويقول : «شوفي ضربوا هذه الزاوية أمرهم الى الله يشتوا يخربو الجدار».
ساعتها باغته أحدهم وضربه بالصميل من الخلف، حسب أم حبيب. «اشتبك صلاح معهم، وعندما شعر بالألم صاح بأعلى صوته، ثم قام شخص آخر بتوجيه السلاح نحوه يشتي يقتله، فاطلق اكثر من طلقة (بالسريع)، لكنها أخطأت صلاح وسكنت في جسم صاحبهم». كان يقف على رأس هذه العصابة العقيد محمد البداء؛ والرصاصات التي أطلقها أحد أفراد العصابة وأخطأت صلاح،استقرت في العقيد فأردته قتيلاً، طبقاً لرواية أم حبيب.
تقول أم حبيب: إن العصابة حين اعتقدت أنها تخلصت من صلاح لم تكن تعلم أنها خسرت الزعيم: «انتهى الإشتباك وبدأت العصابة تنسحب، لكنهم تفاجأوا بصلاح يصيح.. يرجوهم ألا يتركوا صاحبهم، طالباً منهم أن يسعفوه.. حينها تأكد لهم أن الذي قتلوه ليس صلاح، بل هو الفندم، فتركوه جثة هامدة ورحلوا».
وهي تؤكد أن زوجها بادر الى إبلاغ الشرطة. وبعد أن وصلت وأخذت الجثة، توجه صلاح فوراً الى ادارة البحث الجنائي بمحض إرادته، وفي صبيحة اليوم التالي دهمته فصيلة الإعدام الآتية من ذمار، الى «بيت الأمن»، وأزهقت روحه على مرأى من الضابط المناوب.
المذهل، هو أن القصة لم تنته عن مقتل صلاح. ففي حين كان مشائخ وأعيان إب ملتئمين في منزل الشيخ عبدالعزيز الحبيشي لمناقشة جريمة اغتيال صلاح داخل ادارة البحث الجنائي، اقدمت عصابة مسلحة تستقل سيارة صالون بني تحمل الرقم 2055/17 موديل 86 على هدم بقايا منزل صلاح الرعوي وتسويته بالأرض، ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل انتقلت الى منزله القديم وقامت بتحطيم النوافذ والأبواب، وتكسير الأثاث.
وإزاء هذا الحال, تناشد أم حبيب رئيس الجمهورية التدخل لحمايتها وأطفالها من بطش المسلحين. فقد علمت المسكينة أن العصابة تتعقبها، بل أكثر من ذلك عرضوا مبالغ مالية لأشخاص من القرية لقاء إخبارهم بمكان تواجد أم حبيب وأطفالها حسب بعض الأهالي.
وكانت لجنة برلمانية شكلت بغرض تقصي الحقائق، غير ان جهودها الى الآن لم تسفر عن أي نتيجة.
من جهة أخرى كشفت مصادر أمنية لـ«النداء» أن عمليات الأمن العام بمحافظة ذمار كانت بعثت برقية الى عمليات الأمن العام بإب تفيد، قبل حادثة مقتل صلاح، بأن مجموعة مسلحة خرجت من ذمار برئاسة مدير البحث «لإحداث أضرار أمنية» الا ان العمليات الموقرة لم تحفل بهذه الاشارة.
وفي تطور للقضية اعتصم الاثنين الفائت مئات المواطنين امام مكتب المحافظ. يطالبون الجهات المختصة بإعادة المتورطين في مقتل صلاح الى السجن، والذين أطلقت النيابة سراحهم بعد ساعات من اعتقالهم.
المفارقة أن العصابة المتورطة تقدمت ببلاغ الى أمن إب تطالب فيه بإعادة أشياء تزعم أنها فقدت أثناء تنفيذ المهمة:- 300 الف ريال+ جنبية+ تلفون سيار. متهمة احد الضباط المناوبين بالاستيلاء عليها، وذكرت مصادر أن الضابط الذي توجهت اليه أصابع اتهام الجناة جرى التحقيق معه.
تلزم الاشارة الى أن تفاعلات القضية ما تزال تتنامى على نحو خطير، وقد تكون الفتيل الذي يشعل بؤرة اضطراب أخرى، ناجمة عن مشكلة نهب الأراضي المستفحلة في أكثر من محافظة، سيما عدن وإب.