شاب يغادر بعد 18 عاماً بيد مبتورة، وقاضٍ يخرج مجنوناً.. رمضان يحرر 477 معسراً من مختلف السجون

شاب يغادر بعد 18 عاماً بيد مبتورة، وقاضٍ يخرج مجنوناً.. رمضان يحرر 477 معسراً من مختلف السجون

- علي الضبيبي
ali.dhubaybaybiMail
ذرفت عينا السجين أحمد العليِّي، وهو يلف بذراعيه، رفيق محنته (وصاحب البلاد)، علي غوبر، الذي يودعه بعد رفقة دامت 13 سنة في سجن واحد.
مثله فعل عبدالكريم الروسي، المحبوس منذ 12 سنة، وهو يشاهد، من وراء السياج الحديدي، طوابير المغادرين وهي تتأهب لمغادرة ساحة السجن (الوسطى) بإتجاه البوابة الخارجية في أكبر عملية إفراج جماعي عن سجناء الحقوق الخاصة من مختلف سجون المحافظات. (والروسي، يحمل الجنسية الاسبانية ويجيد 8 لغات عالمية وبحوزته حكماً قضائياً يؤكد فقره واعساره من القاضي المكلف بهذا الشأن في سجن صنعاء، وهو يعاني من جلطة في الدماغ قد تودي بحياته، وينتظر وصول العدالة إليه في سجنه ليغادره).
العملية التي أعادت 54 من مركزي صنعاء معسراً إلى بيوتهم، فيهم عدد من قدامى السجناء وأشهرهم، والتي تمت الخميس قبل الماضي (ليلة العيد)، حفت بمراسيم وداع، وبخاصة للقدامى وذوي السمعة، حيث تدافع المئات الى عنابر وغرف المفرج عنهم، وارتفعت الزغاريد والهتاف وزف البعض على الأكتاف الى بوابة الأقسام في مشهد فرح صاخب. مترافقا مع أصوات نحيب وبكاء كانت تأتي من بعض السجناء من وراء الشبك على فراق رفاق السنين والبعض على بقائه هو.
وشهدت ساحات السجن المركزي عصرئذ أجواء فرح عارمة مشوبة بخوف شديد، فبينما كان مدير السجن ورؤساء النيابات يدققون في وجوه وكشوفات المفرجين، كان بعضهم يرتجف خشية إعادته الى عنابر السجن.
ويتقدم المغادرون السنحاني صالح المصلي (75 عاماً تقريباً) والذي أمضى 18 عاماً في السجن، والشاب احمد محمد شرف الحكيمي الذي مكث نفس المدة وخرج مقطوعة يده اليسرى بسبب سرقة داخل المنشأة العقابية.
وأفرج ايضاً عن الشخصية الاقوى بين السجناء ورئيس اعتى اقسام السجن (القلعة) الحيمي علي غوبر بعد ان قضَّى ثلاثة ارباع المدة المحكوم بها (15 سنة).
كما افرج عن القاضي احمد يحيي عبدالله الحميدي وهو يعاني من اضطرابات نفسية وعقلية أدخلته المصحة في أواخر سنوات العقوبة (12 سنة) وكان حكم بعشر سنوات.
وإلى هؤلاء المشاهير والكبار، الجندي محمد الرحبة الذي تكبَّد مرارة 14 سنة في مليون و700 الف ريال في حادث سير (انقلاب) على خط صنعاء – الحديدة، حيث كان يقود سيارة جيش قبل أو يودي بحياة اثنين من ركابها، وحكم بثمان سنوات سجن عقوبة في الحق العام.
ومن بين المفرج عنهم عجوز من تهامة شديد السمرة ونحيف يدعى (شوعي بانه يحي محمد السمر)، قضى 12 عاماً في السجن، كان صامتاً ورافضاً الكلام سوى عن إسمه ومدة بقائه محبوساً.
وكان يبدو في حالة ارتباك ومباغته ولايدري الى اين سيتجه، وقال أحد الناس أنه وجده قبيل المغرب على شارع المطار وهو يسأل عن "لواء حجة".
وأثناء محاولة المفرج عنهم الانتظام في طابورين خارج البوابة الداخلية، هرع رجلان مسنان ويحمل كل منهما ادواته على ظهره، الأول من بني مطر ويدعى محمد فارع وحبس 7 سنوات و4 اشهر وهو المحكوم بستة أعوام في مليون و400 الف ريال، والآخر قناف صالح محمد ناصر، من بلاد الروس محكوم بسنتين ومكث 5 اعوام.
وبتلك العملية، يصل إجمالي عدد المفرج عنهم من السجناء المعسرين خلال شهر رمضان المنصرم 477 سجيناً على مستوى الجمهورية كانوا عالقين بمبالغ مالية تفوق 263 مليون ريال.
وإذ بادر العشرات من رجال المال والاعمال بدفع مبلغ 102 مليون ريال عن 247 معسراً، تكفل الرئيس علي عبدالله صالح بسداد 161 مليون عن 230 آخرين موزعة قضاياهم مابين ديات وأوروش وحقوق خاصة.
العميد مطهر علي ناجي مدير عام السجن المركزي بصنعاء، قال إن عملية الإفراج الجماعية هذه تزامنت مع ليلة عيدين (ديني، وآخر وطني) لإدخال الفرحة والسرور الى بيوت وأسر هؤلاء السجناء، مؤكداً ان أعداد كثيرة افرج عنها قبل وفي بداية رمضان، وأضاف "أُطلق 119 سجيناً دفعة واحدة في شعبان ممن تجاوزوا ثلاثة ارباع المدة"، وتابع: "عمليات الإفراج ستتابع، خاصة من ثبت للقضاء انه فقير ومعسر".
وتمنى مدير السجن على المغادرين أن يعودوا الى المجتمع مواطنين صالحين، وأن "يعكسوا البرامج والأنشطة التربوية والسلوكية والإجتماعية التي تعلموها في الإصلاحية، طوال فترة السجن، على حياتهم العملية"، وشكر الرئيس صالح "لإهتمامه بقضايا وأوضاع السجناء لاسيما المعسرين منهم".
وكانت النيابة العامة أفرجت خلال الأشهر الثلاثة الماضية (يونيو، يوليو، اغسطس) عن مايزيد عن 195 سجين ذمة مالية ممن كسبوا دعوى الإعسار التي تقدموا بها الى القضاة المكلفين في عدد من السجون المركزية, كما أُفرج خلال تلك الأشهر عن المئات من السجناء الذين أمضوا ثلاثة أرباع المدة المحكومين بها.
ومن المتوقع أن يكون رقم المفرج عنهم قد وصل خلال أيام عيد الفطر الى 500 سجين. حيث أفاد مصدر مطلع في النيابة العامة أن احد التجار تقدم بمبلغ مالي ليلة العيد بهدف السداد عن 8 من المعسرين، وقال ان الإفراج عنهم سيكون بُعيد العيد.

 

مكث في المركزي 11 سنة، وحين غادره كان مبتسماً ووجهه مدهون بالرضى
صالح المحمي: في السجن فايدة.. بس المدة طالت!!

بدت دولة المحمي تتقافز فرحاً وقد انتزعت أباها من وسط السجن. كانت ممسكة بيده وتستعرض وهما يخطران أمام الناس باتجاه بيتهم القريب.
أما أبوها (صالح المحمي) فقد ظهر على غير عادته، وبدون بدلته الميكانيكية الزرقاء. كان يرتدي ثوباً أبيض وكوتاً، ويعتمر عمامة فضِّية.
احتفل الناس بالعيد يوم الجمعة، لكن أسرة بيت المحمي شُوهدت وهي تمارس الفرح ليلة الخميس. وبخلاف الأعياد السابقة، هذه السنة بدا للعيد بهجة في نفس دولة (طفلة الحادية عشرة). كانت تتذوق الجعالة في حضن والدها لأول مرة، وتضرب الدف الى جواره لأول مرة، وتشاهده في البيت لأول مرة.
عندما اقتيد أبوها الى السجن عام 96، لم تكن «دولة» قد جلست بعد، كانت لا تزال وليدة في شهرها الخامس. وكان أبوها يعتقد أنه سيعود اليها بعد عام- طبقاً لمنطوق الحكم. ولكن رياح الشؤم عصفت بالأب 11 عاماً في السجن المركزي بصنعاء في مليون ويزيد، وسُجن إذ ذاك وهو في عنفوان غطرسته. لقد عجزت وزارة الداخلية أن تأتي به من خارف، لولا تدخل الشيخ مجاهد أبو شوارب «أرسل لي سيارته وقال لي: ياصالح ادخل وانت في وجهي».
تعرفت الى صالح المحمي في السجن في رمضان (العام قبل الفائت)، وقصدته زائراً أكثر من مرة، وفي العشر الأواخر من رمضان- الأخير- اصغيت إليه وهو يقص فصلاً من مغامراته كحاشدي منيع.
وبدا حزيناً لرحيل الشيخ مجاهد وممتناً له أن أدخله السجن، وقال عنه : «كان بطل، وشهم، وصادق، وراس.. وكل شي.. الله يرحمه». وعن نفسه قال،: بعد قليل صمت: «أيش أقل لك.. كنت أنا والموت أخوة. من يسطى يقاربني؟... لك الحمد يا رب.. في السجن فايدة».
وتذكر الرجل الخمسيني، وقد نحل جمسه وابيض رأسه، عصر ذلك اليوم الذي غادر فيه 12 طقماً عسكرياً حوش بيته (في خارف) عاجزةً عن الإتيان به، وهو يتحداهم من النافذة أن يطلقوا رصاصة، وزوجتيه على السطح كلتاهما ممسكةُُ بقنبلة: «خيَّرتهم بين أمرين: يروحوا لهم بسلام، أو ينفذوا الأوامر ويطلقوا النار.. بس الراس هذا ما يسرش إلاَّ بثمنه..».
في أول تحقيق لي عن المعسرين في اكتوبر الماضي، وجدت الرجل يقطِّع البصل في مطبخ السجن، وعرفت منه أن مشكلته تكمن في أنه ميكانيكي اشترى سيارة من سارق، وحكم عليه بتسديد مليون و300 الف تقريباً (حق خاص) وفي الحق العام بالسجن عاماً كاملاً. ساعتها زرت أسرته، التي آل بها المقام الى بيت للإيجار بمحاذاة الجدار الشرقي للسجن (زوجتين). إذ انتقلت الأسرة من خارف الى صنعاء بعد مضي العام الأول (المدة المحكوم بها) لحبسه، لتكون قريبةً منه، وقد يئست لخروجه.
ليلة خروج المحمي من السجن كان المدير يربت على كتفيه: «احلف انك باترجع..» فأقسم له بالله أنه لن ينسى المعروف، وأشار الى ماكينة اللحام : «خليها عندك وشارجع بعد العيد اطلب الله هانا.. ولا يهمك».
وبخروجه تكون إدارة السجن قد خسرت واحداً من أهم نزلائه. قال عنه المدير: «فنان وداهية».
يملك الرجل في السجن ورشة «ميكانيك» ويقوم بتلحيم أبواب ونوافذ السجن وأسيجته الحمائية. وكان على الدوام لا بساً بدلة العمل، وطوال فترة بقائه هناك 11 سنة داوم الشغل «عشان مصاريفي ومصاريف الجهال» قال لـ«النداء». لصالح إبتسامة هادئة وزباين معروفين، وتقع ورشته على ناحية من مدرسة الميثاق (قبالة الفرن المركزي). وقبيل الافراج عنه بأسبوع كاد أن يخسر حياته، أو على الأقل رجله من الركبة. فبينما كان يقلّب أدواته داخل المحل المزدحم بأدوات الحديد المكركبة، اختذف سلك الكهرباء برجله أسفل الركبة وصرعه أرضاً. محدثاً فيه جراحاً عميقة في ساقه وأسعف بعدها الى المستوصف.
على كلٍ أفرج عن صالح المحمي وساقه ملفوفة. بالشاش. ليعود الى بيته وذويه «بس المدة طالت» قالها وهو يتسم قبيل مغادرته!