مليونا يمني ضحايا الأمراض العقلية

مليونا يمني ضحايا الأمراض العقلية

منسيون على أرصفة العدالة المصلوبة
 
 
- سامي غالب
باستثناء اعتماد مصطلح «المصابون بأمراض عقلية» في الوثائق الرسمية، لم تظهر الحكومات اليمنية المتعاقبة أية جدية لتحسين ظروف حياة هؤلاء المرضى الذين تزداد أعدادهم بمعدل يوازي الزيادات في أسعار السلع الأساسية. بعبارة أخرى فإن السياسات الاقتصادية والمالية القاصرة التي تنزل أغلبية المواطنين إلى مادون خط الفقر، تؤدي بالضرورة إلى دفع مئات الآلاف منهم إلى حافة الجنون.
تتفاقم ظاهرة انتشار الأمراض العقلية لأن أولويات الدولة اليمنية المرشحة للانحدار إلى حضيض الدول الفاشلة، تتسم بالجنون، حيث حصة الإنسان في الميزانية العامة للدولة تتقلص في مقابل زيادات متسارعة في الإنفاق على السلاح والأمن. هل نزيد فنشير إلى وجود علاقة ارتباط عكسية بين الانفاق على السلاح والأمن ومؤشرات الصحة العقلية للسكان؟ بصيغة أخرى يمكن تلخيص الوضع الكارثي لليمنيين على النحو الآتي: كلما اعتمدت الحكومة مقاربة أمنية حيال مواطنيها، زاد الانفاق على الأمن وتقلص الإنفاق على البشر، وتضاعف عدد المرضى العقليين جراء القهر و البطالة والفقر والفساد، وبالتالي تفشت ظاهرة انتشار المرضي العقليين في شوارع المدن اليمنية.
حسب تقديرات أولية لباحثين، فإن في اليمن نحو 2 مليون مريض عقلياً، ما يعادل 10٪_ من السكان.
ومع التحفظ على دقة هذه التقديرات وعدم شموليتها فإنه لا جدال في حقيقة تفشي الأمراض العقلية بين اليمنيين وفشل الحكومة المستدام في توفير الرعاية الاجتماعية لضحاياها- ضحايا سياساتها الجنونية.
للدقة، فإن حساسية الحكومة لهذه الظاهرة، كما ظواهر أخرى، تضعف سنة تلو سنة. ولعله من المفيد استحضار لحظة استثنائية من العقد الماضي، قرَّر فيها الرئيس علي عبدالله صالح تنبيه مسؤولين في الحكومة إلى إفرازات هذه الظاهرة، وضرورة معالجتها. ففي 4 مارس 1998، وجه علي محمد الآنسي مدير مكتب رئاسة الجمهورية مذكرة إلى محمد البطاني وزير التأمينات والشؤون الاجتماعية سنتذاك، يحيطه علماً بازدياد عدد المصابين بالأمراض العقلية في شوارع المدن وبخاصة أمانة العاصمة، وتحولهم إلى مشردين ينامون على الأرصفة في أكثر من موقع، وعلى أرصفة وزارة العدل!
لم يلحظ المسؤول الرئاسي ما قد يكون مؤشراً على علاقة بين استلقاء مرضى عقليين على أرصفة وزارة العدل وبين العدالة المفقودة. ولم يتحقق من احتمال أن يكون هؤلاء الذين ينامون على أرصفة الوزارة «مشارعين» سابقين لا مجرد مشردين. على أنه طالب الوزير المختص باتخاذ «الاجراءات الكفيلة التي ترونها لاختفاء هذه المظاهر طبقاً لنظم الرعاية والتأمين الاجتماعي».
احتاج البطاني عشرة أيام ليقرِّر ما ينبغي عليه فعله. وقد توصل في 14 مارس إلى التقرير بأن وزارته ليست الجهة المختصة بتنفيذ توجيهات الرئاسة. وقد حرر مذكرة إلى وزيري الصحة والداخلية يخطرهما فيها بأنهما المسؤولان عن تنفيذ «توجيهات الأخ مدير مكتب رئاسة الجمهورية».
المحقق أن تضارباً -بالأحرى تنصلاً من- مسؤوليات عطَّل التوجيهات الرئاسية. وبحسب المصادر فإن الداخلية والصحة لم تكترثا لتأويلات البطاني للنص الصادر من الرئاسة. وليس مؤكداً بعد نحو 10 سنوات من مذكرة الرئاسة أن تكون الحكومة قد حسمت الاختصاص لوزارة أو جهة ما تتبعها. أي أن المرضى العقليين عرضة لاجتهادات أكثر من جهة، وهي اجتهادات غير صائبة ولا يستحق أصحابها أجر المخطئ.
وتزخر تقارير حقوقية بعشرات الحالات المسجلة لمرضى قابعين في سجون مركزية، أو في معتقلات أمنية في محافظات مختلفة. ولا غرابة أن يُشاهد هؤلاء الضحايا الذين يؤخذون من الشوارع، أو يعتلون عقلياً جراء الظلم أو سوء المعاملة في السجون، مختلطين بالسجناء في السجون المركزية أو المعتقلات غير الخاضعة لرقابة البرلمان أو المنظمات الحقوقية.
في هذا العدد الذي يسبق إجازة عيدالفطر المبارك، تعرض «النداء» لمشاهدات عن معاناة المرضى العقليين، تغطي جزءاً ضئيلاً من الظاهرة الكارثية، واعدة بتغطية معمقة وشاملة لأبعادها في عددٍ لاحق.
اختارت «النداء» أن يكون هذا الملحق بمثابة تهنئة بالعيد للمسؤولين في الحكومة والمجتمعين السياسي والحقوقي، متمنية لهم عيداً سعيداً حافلاً بالملذات، خلواً مما قد ينغص ضمائرهم اليقظة.
 
 
 
***
 
 

إدارة السجن مولعة باحتجازهم
لا أحد يعرف مصير صاحب الصفَّارة!

- إب - إبراهيم البعداني
في أقصى باحة السجن المركزي بمحافظة إب يحشر 60 مريضاً عقلياً في 3 غرف ضيقة  (مساحة الغرفة 4*3) مجازاً يطلق عليها مصحة الأمراض النفسية.
60 مريضاً اعمارهم تتراوح بين (17-60 عاماً) غير قابلين للزيادة والنقصان إلا في حالة وفاة أحدهم.
الشفاء وارد لكنه حالة عرضية سرعان ما تنتهي، فإدارة السجن ترفض أن يغادر أي نزيل من المصحة حتى وإن شفي. ما يقارب نصف عددهم محكوم عليه بالسجن أما البقية فقد أتى بهم أهاليهم. وطبقاً لموظفي المصحة فإن ادارة السجن تشترط على أهل كل مريض كيس رز وكيس سكر لقبول مريضهم وإنزاله في مصحة السجن وهي المصحة الوحيدة في المحافظة.
ربما في ذلك ميزة!! فقد نجا مئات المرضى عقلياً في محافظة إب من عقاب السجن.. انهم يجوبون شوارع المحافظة بحرية مطلقة. وخلال العشر السنوات الماضية زحف فيروس الهلوسة من المدينة واصلاً الى كل قرى المحافظة وغدت كل قرية تشتهر بوجود مجنون فيها.
اللافت ان مدينة إب أصبحت تشكل اكبر تجمع استيطاني لمرضى المحافظات، فما من شارع أو حي من أحياء المدينة إلا وبه مرضى يفترشون الأرض والمقابر والمواقع الاثرية والسياحية للمبيت في الليل بعد تجوال وطواف على المدينة طيلة ساعات النهار بحثاً عن المجهول الذي فقدوه، وكل واحد منهم له صفات وعلامات تميزه عن الآخر، فمنهم من يحمل (فأس) وآخر بطانية وآخر صفاره وسير منهم من هواة جمع الاكياس والعلب البلاستيكة و... إلخ.
والشيء الأكثر خطورة وجود مرضى في سن العشرين والذين أصبحوا اكثر انتشاراً في المدينة من غيرهم من ذوي سن ما بعد مرحلة الشباب.
عبدالله الحطباني 55 عاماً من سكان إب قال «للنداء» انه يتذكر ان إب قبل 40 عاماً كان فيها مجنون واحد ولم تكن حالته كهؤلاء. إلا أن قاسم ناصر 45 عاماً قال إن ثمانينات القرن الماضي عرفت إب مجموعة مجانين يعدون بالاصابع كان أشهرهم (صالح) صاحب الصفارة الذي كان يجوب شوارع المدينة يستعمل صفارته وفي المساء (يضيع) لا أحد يعلم أين يذهب ولا يظهر إلا في صباح اليوم الثاني.
في منطقة مفرق ميتم بمدينة إب يوجد مريض مجهول افترش الرصيف منذ اكثر من خمس سنوات ومن تلك الفترة حسب مواطنين التقتهم «النداء» اكدوا انه لم يغادر مكانه الى الأن، حيث يقوم بالاختباء داخل طربال (خيمة) هي بيته التي لا يغادرها أبداً. و يقوم أصحاب المطاعم المجاورة بالتكفل بإعطا الوجبات الغذائية. كما أن أصحاب السيارات الذين يمرون من جواره يقوم البعض منهم بتزويده بالقات والسجارة.
يقول صالح المواز بائع متجول إنه وكثير من العامة يستغربون لهذا المجنون الذي وصفه (بالهادئ) حين لم يفارق هذا المكان طيلة هذه السنوات ولا لدقيقة واحدة.
ويضيفون انهم لم يشاهدوه قام بتغيير ملابسه أو حتى غسل وجهه واستغربوا اكثر انه حتى في أيام الأعياد يلتزم مكانه دون أن يأتي أحد لزيارته أو السؤال عنه.
«النداء» زارت مقر المريض المستوحد المجهول. كان أشبه بكتلة صخرية ما تزال في مكانها منذ أن وجدت في نفس الحي.
 (مفرق ميتم) اشتهر بوجود حسن المقوت (مجنون) كان بائع قات يعيل أسرة كبيرة أصبح خلال سنتين فقط شارداً في شوراع المدينة حاملاً ما تزال من قضيباً من الخشب (صميل) وفي أغلب الاحيان يقوم (حسن) بافتراش الارض واسواق القات عارضاً القات على العامة بغرض بيعه في حين يقوم بالوقوف ومناداة العامة بخبرهم انه بربي وانهم تآمروا عليه..!!) إلا أن حسن يختلف عن المجنون المجهول حيث يقوم نجله الأصغر 12 عاماً بانتظاره حتى المساء وبعدها يقوم باصطحابه الى المنزل في أحدى قرى ميتم.
وفي إب يوجد العشرات من المرضى الذين لا يفارقون شوارع المدينة إلا في الاعياد حين يقوم ذووهم بأخذهم الى المنازل ويقومون بتنظيفهم والباسهم ملابس نظيفة وحين يحاول المجانين الخروج بالقوة من المنزل يقوم ذووهم بحبسهم داخل احدى غرف المنزل وفي بعض الاحيان يستخدمون معهم العنف والضرب وتقييدهم بقيود حديدية حتى الانتهاء من اجازة العيد بعدها يطلقون سراحهم.. فيما تفضل الكثير من الأسر التي لديها مرضى مراقبتهم طوال اليوم وتحرص على أن يعودوا الى المنزل في المساء وكما أن العديد من العائلات تحرص على الاعتناء بهم فنشاهد المريض يجوب شوارع المدينة مرتدياً ثياباً نظفية.
محمد السعيدي مدير المصحة قال لـ«النداء» إن هناك حالات كثيرة شفيت ولا داعي لبقائها في المصحة إلا ان ادارة السجن تصر على بقائها. كما أن المصحة تعاني من قلة الامكانيات التي لا تفي بالغرض والمكان نفسه ليس مؤهلاً لأن يكون مصحة كونه داخل سجن فيه 5 غرف ضيقة يتم حشر الامراض في 3 منها وعددهم 60 مريضاً ويضيف: الاعتماد كان في السابق ثمانية آلاف ريال والان، وصل الى مائة الف ريال شهرياً، هذا المبلغ لا يكفي كون الحالات جميعها تستدعي وجود وتوفير رعاية على .. الساعة من غسل وتنظيف وتغذية ومع ذلك فالتغذية ناقصة.
واكد السعيدي أن المصحة تعاني من وجود عراقيل وتدخلات إدارة السجن التي تضايقهم في عملهم حيث انها تمنع حتى النظافة إلا بتوجيه من الادارة» ولا يسمح للمرضى بالخروج من غرفهم الى الحديقة إلا بتوجيه وامر من مدير السجن.
وعن وجود مصحة مستقلة عن السجن قال السعيدي قمنا بالرفع الى قيادة السلطة المحلية ووزارة الصحة بهذا الخصوص وتم الإتفاق مع صندوق التنمية بتبني مشروع بناء مصحة مستقلة عن السجن في منطقة السحول. إلا أنه الى الآن لم يتم تنفيذ المشروع وفي حال تنفيذه فإن مشكلة الامراض ستحل بشكل جيد نظراً لتوفر الاستقلالية وعدم وجود عراقيل داخلية.
وعن طريقة التعامل مع الأمراض أيام الأعياد أفاد: على الرغم من أن الامكانيات ضئيلة إلا أننا نحرص قدر الامكان بتوفير الملابس الجديدة لهم واللحمة الجيدة (التغذية).
عبدالله طامش طبيب المصحة قال لـ«النداء»: المصحة تعاني بالاساس من العجز المالي اضافة الى التدخلات وعراقيل من قبل مدير السجن الذي يعمل دائماً على إشراك اكثر من طرف في إدارة المصحة مما يؤثر على العمل داخل المصحة. كما أن المصحة تفتقر لوجود المختبرات والأجهزة التشخيصية. وبالتالي فإن المرضى يصبحون عرضة لامراض مزمنة تضاف الى الامراض النفسية، التي يعانونها.
ويضيف د/ طامش ان اكبر مشكلة تعاني منها المصحة هي تدخل ادارة السجن في عملها حيث ان ادارة المصحة تتعامل مع الامراض باعتبارهم مساجين، فلا يسمح لهم بالخروج الى الحديقة بحجة خوف الادارة من هروبهم!! ويتم حشرهم في غرف السجن (المصحة) ويختتم طامش حديثه: إن وجود مصحة مستقلة عن ادارة السجن هي الحل الوحيد للمرضى.
 
 

***
 

أشهر مقولاته: لا سالمين سلم ولا حوت بعقله
من سائق الأمير يتجول بقدمين حافِيتين

- الضالع - فؤاد مسعد
يعتبر من أشهر الشخصيات في المحافظة، عرف أنه ذو حكمة حتى وهو يجوب الشوارع مجنونا،، كيف لا واليه ينسب المثل القائل: «عاد الجنان يشتي عقل».
وهذه هي فلسفة الرجل الذي يبدو طاعنا في السن بدسمال شبه ممزق؛ غير انه يحتفظ بنظرة ثاقبة؛ يمعن خلالها النظر في الأشياء كما في الأشخاص؛ يسأل وينتظر الإجابة؛ وإذا سئل جاء جوابه كالعادة مختصرا لا يخلو من فكرة.
بعد فترة وجيزة من رحيل الاستعمار الأجنبي عن ارض الجنوب؛ والإعلان عن دولة مستقلة قامت أجهزة الأمن باعتقال المواطن الذي يقال إنه كان يعمل سائقاً لدى أمير الضالع؛ واستمر في السجن سنوات خرج بعدها يجوب شوارع الضالع؛ لكن ليس بسيارة الأمير التي اعتادها؛ انه يمشي على قدمين حافيتين؛ وفي هذه الرواية ما يفيد اتهام عناصر الأمن بممارسات أفضت به إلى الجنون؛ غير أن مسئولا سابقا في ذات الجهاز قال للنداء إن السلطة كلفت حوات بنقل الماء للسجناء؛ وعندما لاحظت تعامله السيئ واستهتاره بالعمل؛ كان مصيره الاعتقال؛وهو بهذا يرجح أن يكون حوات قد اخترع فكرة الجنون ليفلت من العقاب.
عندما وصل نبأ اغتيال الرئيس الأسبق سالم ربيع علي (سالمين) إلى حوات وهو في السجن أطلق مقولته المشهورة (لا سالمين سلم ولا حوات بعقله) عبارة اشتهرت شهرة صاحبها؛ فهي تؤرخ لحدثين هامين على الأقل بالنسبة لقائلها: رئيس خسر حياته ومواطن فقد عقله.
ولعل هذه المقولة باكورة إنتاج لم ينقطع لشخصية بدأت تتحول إلى أسطورة يحفظ الضالعيون كثيرا من مضامينها، واليها تعزى معظم الأقوال حتى وان كانت صادرة عن غيره؛ وفي الآونة الأخيرة آثر حوات العزلة والابتعاد عن الأضواء ربما تقديرا منه لان الشارع الضالعي لا ينقصه مثل كلامه الناقد بسخرية لاذعة.
وقف حوات يوما بعد إعلان الوحدة بجوار مدخل صغير لسوق القات، وسمع احد القادمين من المناطق الشمالية يتذمر من ضيق المدخل ويتساءل: لماذا لم يوسعوه؟ فاقترب منه حوات وقال بلكنة لا يجيدها غيره:
(نحن عملنا الباب على قدرنا؛ لو كنا عارفين إنكم با تأتوا كنا وسعناه)
العبارة ذاتها صارت تتردد في أكثر من موقف.
تغيرت الضالع من مديرية إلى محافظة بفعل قرار جمهوري صدر عام 1998م غير أن حوات له رأي آخر، يقول:
(الضالع هي الضالع بس أنا كنت مجنون مديرية واليوم أصبحت مجنون محافظة)
 إلا أن الضالع كأي محافظة يمنية تحتفظ بقائمة من المجانين بالطبع غير حوات وهم يتواجدون بكثرة في الأسواق الرئيسية والشوارع المزدحمة؛ حيث يمارسون طقوسهم اليومية دون اكتراث بما حولهم...أو هكذا يبدو حالهم..
وكما يفتقر أبناء المحافظة لمرافق خدمية عديدة يفتقر المجانين – وهم أبناؤها أيضا – إلى مصحة نفسية،، وان تخلو محافظة بأكملها من مصحة نفسية أمر يدعو إلى الغرابة؛ لكن لا يبدو أن هناك ما يبعث على القلق إزاء ذلك، فالبعض يعتبر قلة عدد المجانين سببا كافيا لعدم التفكير الجاد في أهمية وجود مصحة؛ بينما مصادر في مكتب الصحة قالت للنداء إن مشروع المصحة النفسية يأتي ضمن مشاريع الخطة الخمسية من قبل وزارة الصحة؛ وحاليا يوجد في مستشفى النصر الحكومي طبيب واحد للأمراض النفسية؛ ونظرا لعدم وجود أدوية ومعدات لازمة تتعذر المناوبة باستمرار وبالتالي لا يتم استقبال أي حالة.
وإذا كان الجنون فنون فإن محترفي هذا الفن يتمايزون فيما بينهم، حيث ينطوي البعض في مكان لا يبرحه؛ فيما يؤثر الباقون التحرك في الأسواق والبحث عن أماكن تجمع الناس.
(حكيم) يبدو مكتمل البنية لا يكترث بما يرتدي من ثياب، لكنه يحتفظ بعلاقات واسعة، خاصة مع بعض المسئولين والوجاهات الاجتماعية؛ ودائما يوظفها في الاستحواذ على مبالغ مالية كبيرة لا يحوزها غيره؛ كما انه يواظب باستمرار على حضور معظم الفعاليات وترديد الهتافات المناسبة في كل فعالية،، فإذا كان يجيد تحية العلم والسلام الجمهوري في فعالية رسمية، فهو أيضا يتقن تمجيد الحزب الاشتراكي ورموزه في فعالية أخرى.
وفي السنوات الأخيرة استقبلت السوق عددا من المجانين الجدد منهم من المحافظة نفسها وآخرون وفدوا على الضالع من مناطق أخرى؛ وهؤلاء في معظم الأحوال محل شك من قبل المواطنين الذين يتصورون أنهم مخبرون يطلون على الشارع من نافذة الجنون!!!
 

***
 
 
 
فاطمة تتذكر ولدها بلغة شاعرية
 
- صنعاء - هلال الجمرة
«عبدالله.. يا سيدي وعيني، ياركني العاية، وسراجي اللاصية، الله يجعلك حارث وارث»
واحدة من بين 15 مريضة نفسياً، تقطن قسم الرقود (للنساء)، لديها فصام مزمن (مرض يتمثل في ظهور هلاوس حسية مختلفة وأوهام)، حيث أدخلها أولادها مستشفى الأمل للطب النفسي لتكمل ما تبقى لها من الحياة هناك.
فمنذ دخولها في 1994، لم تر العمة فاطمة أبناءها الذين سهرت لأجلهم وعانت في تربيتهم.
ورغم هجرانهم ونسيانهم لها إلا انها تشتاق لرؤيتهم: «انا فاقدة (مشتاقة) لعيالي وبناتي»، قالت بلهفة أم نأى عنها اولادها.
سردت اسماء أبنائها الخمسة، وعندما لفظت اسم عبدالله اثنت عليه قائلة: «ولدي عبدالله.. يا سيدي وعيني، ياركني العالية، وسراجي اللاصية، الله يجعلك حارث وارث».
أمة الرزاق (رئيس قسم تمريض النساء) ذكرت أن احد ابناء هذه المرأة مريض نفسياً «والباقيون مزوجون وحالتهم المادية صعبة».
زيارة واحدة في الأسبوع ليست صعبة. وأن ترى امك في الشهر سهلة حتى لو كنت مفلساً، هل تبخلون لمشاهدة من ضحت بعمرها لأجلكم؟
تنحدر أم عبدالله من قرية بوسان مديرية الحداء، وفي شعور حنيني استذكرت جلساتها القروية التي كانت تمارسها في الماضي وحتى دخولها المستشفى، وعلى وجهها ترتسم ابتسامة لا تفارق محياها: «كنا نقدح ونسير نحش ونطعم البقر والقراش». وسألتها، هل أديت فريضة الحج؟ ردت بلهجة لا تخلو من المزاح: «حجيت يوم وأنا جاهلة». أمة الرزاق أضافت «هي تصوم كل رمضان وهي أنشط واحدة في القسم فهي تنظف كل أدواتها وغرفتها لنفسها». لا تنتظر العمة فاطمة قدوم عاملة النظافة لتقوم بعملها، فهي تتكفل بتنظيف غرفتها.
فاطمه أمية ومريضة إلا أن هذا لم يمنعها من حياكة غطاء زخرفي جميل، نسجت أسواره الدائرية والمتراصة فوق بعضها بخيوط ذات الوان عشوائية أضافت اليه مسحة جمالية.
غطاء واحد هو حصاد 13 سنة مضت، لكنها تطلب من الله «العافية» لتتمكن من صنع آخر، فيكونا إرثاً يتقاسمهما اولادها بعد موتها، إن لم يباغتهم الموت قبلها.
بصوت مستنجد طلبت الشيخة: «اشتي تخرجوني معاكم أشتي أسير عند عيالي (أولادي)».
لقد زادت روح الحنين لديها، وتأمل أن ترى اولادها. الاخصائية النفسية مواهب باحكيم فسرت الحالة بـ«إن لديها اضطراباً نفسياً جسدياً، بالاضافة الى اضطرابات عضوية اصلاً مع وجود شخصية هستيرية ورغبة في لفت الانتباه».
 
 

***
 
 
 
 
اختفت الاولى بعد حملها وخفايا في انتظار الثانية
 

- عدن - إياد البحيري
المكان جوار شرطة الشيخ عثمان.. الزمان منذ عامين وحتى الآن.. الموضوع انوثة خالصة فقدت عقلها ورقتها فجاورت الساهرين على الأمن.
وجه شاحب، ثياب رثة وشعر بات متقصفاً من التقلب الخشن على الرصيف.. تفترش الثرى لتنام عليه على مرأى ومسمع اصحاب البدل الخضراء مسندة ظهرها إلى سورهم لعلها تشعر بالأمان جوار الأمن.
منذ اكثر من عامين تنام امرأة في عقدها الرابع على الرصيف، جوار شرطة الشيخ عثمان محافظة عدن لا تتفوه بكلمة واحدة سواء مداعبة شعرها الرث وملاطفة خدها بأظافرها لإزالة الأتربة.
عندما تحاول الحديث معها لن تصغي إليك. حاولت التعرف عليها اكثر لكن كثيرين لا يعرفون عنها شيئاً، سوى انها من محافظة عدن وتنام في هذا المكان على الدوام فاقدة لوعيها كما اشار الى ذلك صاحب بسطة يقطن المكان منذ زمن بعيد، واضاف: «هذه المرأة لا أحد يعرف عنها شيئاً سوى انها من عدن وتجلس في هذا المكان طوال الوقت ويأتي هذه الايام بعض الاشخاص ويضعون امامها الأكل ويمرون وقيل لي انهم اقرباؤها».
امرأه أخرى كانت تقيم في نفس المكان منذ عامين، والفرق الوحيد أن الاولى تبقى متكئة على الدوام والأخرى مستلقيه على ظهرها ولكنها كانت حبلى بعد أن اغتصبت، حيث حملت جنيناً في بطنها، ثم ما لبثت أن اختفت من ذلك المكان وحتى الآن.. هذه المرأة التي احتلت مكانها لن يستبعد ان ينالها ما نال الأولى في ظل سطو الغطرسة الشيطانية وغياب الرحمة حتى وان امنت نفسها بسور الشرطة, فقد كانت الأولى في نفس المكان, ولم يعرف مصيرها بعد.
 
 

***
 
 

 المختلون عقلياً في الشوارع يحظون بحلقة نقاش بتعز نظمها
مركز المعلومات والتأهيل لحقوق الإنسان..
نحو مليوني يمني مصاب، والعدد إلى إزدياد
 
- تعز - عبد الهادي ناجي علي
الحلقة النقاشية التي نظمها مركز المعلومات والتأهيل لحقوق الإنسان مساء الخميس قبل الماضي بعنوان (ظاهرة انتشار المرضى العقليين وأثرها على المجتمع) مثلت حجراً ألقي في بحيرة راكدة عسى أن تتحرك مياهها ويبدأ المجتمع ينظر إلى هذه الشريحة من منظور إنساني يدرك من خلاله أن هذه الشريحة تحتاج إلى وقفة ومساعدة المجتمع كله.
مستشفى الأمراض العقلية بتعز بدون سيارة إسعاف
بدأت الدكتورة سعاد محمد عبد الرب بالتعريف بالمرض العقلي وأعراضه وأنواعه وعوامل انتشاره مؤكدة ان العامل الوراثي له دور كبير في نشأة المرض بالإضافة إلى عوامل أسرية تتمثل في أساليب التربية الخاطئة والتمييز والقسوة، بالإضافة إلى عوامل اقتصادية تتمثل في غلاء المعيشة التي سببها غلاء الأسعار والأزمات النفسية.
وأشارت في الورقة التي قدمتها بعنوان «أثر المختلين عقلياً على المجتمع ودور مستشفى الأمراض النفسية والعصبية تجاه هذه الفئة»، إلى وجود دراسات عالمية تشير إلى أن نسبة انتشار المرضى العقليين هي نسبة من 5-10 % من مجموع الناس وإذا ما أسقطنا هذه النسبة على اليمن فمعنى ذلك أن هناك مابين مليون ومائة ألف إلى مليونين ومائة ألف مختل. أما في تعز –حسب الدكتورة- فإن هناك إحصاءات سنوية لعدد المرضى العقليين الذين يترددون على مستشفى الأمراض النفسية والعصبية وإحصائيات النصف الأول من العام 2007م تشير إلى أن عدد المترددين على العيادة الخارجية بلغ 1600 شخص منهم (مرضى عقليون ومنهم ذوو حالات نفسية وعصبية) وقالت إن عدد المرضى العقليين من الذكور 444 مريضاً،ومن الاناث 68 مريضة خلال النصف الأول من العام 2007م.
وتطرقت إلى ظاهرة انتشار المرضى العقليين في الشوارع حيث أشارت إلى أن الكل يلاحظ مدى تزايد عدد المرضى في الشوارع بشكل مخيف وبين كل 10 مترات وأخرى نجد مريضاً عقلياً وهذا مخيف وهو يعكس صورة غير حضارية وأنه كلما زادت فترة جلوس المريض في الشارع زادت حالته الصحية تدهوراً بالإضافة إلى خطورته على المواطنين.
وعن دور مستشفى الأمراض النفسية والعصبية بتعز قالت: يواجه المستشفى مشكلة عدم الاهتمام بالمريض ومع ذلك يتم إرسال عاملين مع المرضى الذين تم ترحيلهم إلى السجن المركزي لكي يقوموا بالاهتمام بنظافتهم والاعتناء بهم مع صرف الأدوية لهم مجاناً وقالت: الطاقة السريرية للمستشفى (100 سرير) وهناك مشاكل تتمثل في قلة الكادر التمريضي (14ممرضاً) منهم (4متطوعين)، بالإضافة إلى قلة الأدوية والعقاقير العلاجية ومشكلة قلة المياه وعدم تأهيل الممرضين الموجودين وعدم وجود موازنة تشغيلية.
وأوضحت الدكتورة أن المستشفى كان قد وجه ثلاث رسائل إلى المهندس عبد القادر حاتم وكيل المحافظة للشئون الفنية والبيئية من اجل إخلاء شوارع تعز من المختلين عقلياً لكن لم يكن هناك تجاوب مع المذكرات.
· وكانت الدكتورة قد عقبت على بعض المداخلات بالقول: إن المستشفى لا يمتلك سيارة لإسعاف المرضى في حالة الضرورة إلى مكان آخر..
تهديد الدولة بالمزيد من الاضطرابات..
رئيس قسم علم الأجتماع بجامعة تعز منذر إسحاق قال: لقد تزايدت في الآونة الأخيرة معدلات المختلين عقلياً الذين ينتشرون في أنحاء مختلفة من مدينة تعز (حصرياً).. والمسألة لم تعد مجرد حدث نادر أو مقتصر على أعداد قليلة من البشر، وتطرق في ورقة بعنوان (مختلو الشوارع: العوامل والآثار الاجتماعية – مشاهدات واقعية)، إلى العوامل والأبعاد الاجتماعية للمشكلة والمتمثلة في: الفقر- البطالة – التفكك الأسري –ارتفاع نسبة الأمية – غياب التنسيق بين مختلف الوحدات الاجتماعية – غياب التكافل الاجتماعي – انخفاض مستوى الوعي المجتمعي – غياب الرقابة المجتمعية – تراجع دور الدولة في ظل التوجهات العالمية الجديدة – ضعف الوازع الديني والارتكاز على مسائل العبادات.
وعن الآثار السلبية للمشكلة فقد حددها في: تفاقم المشكلة حتى تتحول إلى أزمة مجتمعية: الآثار السلبية على القطاع السياحي، غياب التماسك الاجتماعي، اختلال التوازن في المجتمع، توسيع دائرة الكفالة وحالات الإعالة، تحمل تبعات بالغة من قبل الدولة تجاه هؤلاء (في حال وجود الرعاية)، تزايد حالات اليأس والإحباط في صفوف المجتمع، تهديد الدولة بالمزيد من الاضطرابات، المزيد من ضعف القيم الدينية نتيجة القصور في الوعي الديني.