أبعد من «كوجاك»

أبعد من «كوجاك» - منصور هائل

كان تشاوشيسكو ديكتاتورا ًرومانياً مولعاً بالتلفزيون، ولم ينقطع عن متابعة المسلسل البوليسي الامريكي «كوجاك». ولكن، ورغم الساعات الطويلة التي كان يقضيها أمام الشاشة، لم يدرك التأثير العاصف لتلك الآلة الثورية السحرية، وقد دفع حياته ثمناً لذلك في ليلة عيد الميلاد عام 1979.
في تلك الليلة تحول الاستديو رقم 4 في تلفزيون رومانيا الحرة الى مركز للثورة، فقد سيطر عليه الثوار ووضعوا حداً لإراقة الدماء في الشوارع عندما قاموا بعرض محاكمة الدكتاتور وصورة جثته، وإلى جانبها جثة زوجته، على الشاشة الفضية التي أدمنها.
وبعد ذلك بقليل كتبت الصحافة الامريكية تقول انه تم استبدال الديكتاتورية في رومانيا بـ«فيديوقراطية».
المعلوم ان استخدام المدافع والبنادق والقنابل المسيلة للدموع لم يحدث إلا في رومانيا. وكان مرد ذلك هو ان الديكاتور عديم الإدراك وأعجز عن أن يرىَ ما يحدث حوله او أن يحس بالارتجاج تحت قدميه. والثابت انه كان طاعناً في خريفه إلى درجة الامتناع عن النظر إلى مآل الانظمة الاشتراكية في اوروبا الشرقية عندما تساقطت في خريف ذلك العام.
والحال أن الانسداد الذي تعيشه بلادنا هو أكثر قتامة -بالقياس الى شقيقاتها- والاحتقانات التي تتفجر بين الحين والآخر والأزمات المتراكمة والمستفحلة والمشتعلة بالمستوى الذي لم يعد بالإمكان معالجتها في إطار المؤسسات القائمة، وانكشاف «النظام» ومعه القائد كأسير لـ«نظام» أمعن في خريفه وتخريفه وطفحت عليه كل تلك الأعراض التي استدعت صورة ديكتاتور رومانيا، هي التي تدفعنا للإقرار بأن هذا النظام يقع في مهب الاعصار وحلق الكارثة وعليه أن لا يستغرق طويلاً في متابعة مسلسل «كوجاك»، وان يدرك أنه مدعو إلى أن ينظر إلى أبعد، خاصة وأن الاضطربات الراهنة ليست قابلة للاحتواء واللجم بالاساليب القديمة، ولا بالرصاص، ولا بالحيل والاساليب الماكيافيلية التي لم تعد اكثر من ألاعيب أطفال.
وبما أننا نعلم أن العاصفة ستنقض على الجميع وان الحمقى وحدهم مؤهلون لشغر الفراغ المتفجر، فإننا لن نكف عن مناشدة المراجع العليا في السلطة الانصات لصوت العقل، والإقلاع عن عادة الارتهان لأدوات القمع والبطش، واعتماد سلطة القمع والمنع كأسطوانة ضاغطة وقادرة على محو الاختلافات والاضطرابات والتصدعات التي غدت تستحث درجة عالية من الاستجابة العاجلة والفورية بمعالجات مبتكرة وجسورة لأن بارقة آخر فرصة يمكن أن تتبدد في أي لحظة ويتبدد معها الحلم بيمن موحد ومستقر وآمن أو الحلم باليمن الذي كان.
mansoorhaelMail