البردوني إرادة الإبداع والتحدي.. النشأة، الريادة، والتجديد (1-2)

في قرية صغيرة (بردّون) من قرى رداع -المشهورة بمآثرها الحضارية الحميرية: "قصر بينون ونقوشها المسندية ومعالمها الإسلامية المعمارية، "مسجد العامرية" الذي لا يقل أهمية وروعة عن "نوتردام" أو أيا صوفيا أو تاج محل أو الجامع الأمويَ- ولِد عبد الله بن حسن البردوني، ناحية الحدا شرقي ذمار.
ليس من تاريخ دقيق ومحدد لولادة الشاعر الكبير، في بلد كان سكانه يؤرخون للمواليد بالجوائح والآفات؛ فيؤرخون بسنة الجدري، أو عام المجاعة، أو الجراد.
ويقدر الأستاذ عبد الله مولده بحدود العام 1929 أو 1930 على سبيل التقريب. ويقارب مولده مع تذكر قريته ضرب الطائرات البريطانية مدينة قعطبة عام 1928، وبغرق محمد البدر ابن الإمام يحيى في الحديدة. والأستاذ عبد الله كثير العودة لذكريات طفولته البائسة محتفظاً بأدق التفاصيل وأكثرها ضآلة وهامشية.
مسيرة البردّوني التي أرخ لها في سرديته الشائقة "مذكرات مواطن"، ونشرها في صحيفة "26 سبتمبر"، وعلى مدى بضعة أشهر، وكان يذيلها بتوقيع المواطن عبد الله البردوني. والبردوني ينحدر من عائلة تعمل في الزراعة.
التحدي الكبير والإبداع العظيم هما بحق عنوان سِفْر خلود الشاعر والسارد البردوني؛ فالطفل الفقير حد الكفاف، وُلِد بين الحربين الكونيتين 1914 - 1918، 1939 - 1945، في شمال اليمن (المتوكلية اليمنية) التي كانت خرجت للتو من الاحتلال التركي، والمعرضة لتهديد الاستعمار البريطاني الذي احتل جنوب اليمن (المحميات الست)، وتواجه النزاع على نجران وعسير وجيزان في الشمال مع الإدريسي.
كانت المتوكلية اليمنية المحاصرة من الجهات الأربع قد رزئت باستقلال أسوأ بكثير من الاحتلال التركي نفسه. فالإمام الجديد يحيى بن محمد حميد الدين رجل دين أنموذجه المفضل للحكم تركة آبائه من آل القاسم بن محمد 1636 - 1849م، 1045 - 1265ه، كما أن صلاته وعلاقاته بالعصر غاية في العداوة والحذر الفاجع.
ولم يكن الصراع حينها مع الأدارسة ثم السعوديين في الشمال والمواجهة مع بريطانيا في الجنوب وحده ما يتهدد المملكة الوليدة والقروسطية في آن. فهناك تمردات تعم معظم مناطق مملكة الموتى كتسمية السائح الإيطالي، سلفاتور أ. بونتي، في كتابه "مملكة الإمام يحيى". فحاشد القبيلة القوية والتي آزرته في الحرب ضد الأتراك، قد بدأت في الميل نحو الإدريسي الذي يوزع الذهب بسخاء، وهناك تمردات في المقاطرة قرب "الحدود" مع الجنوب، وتمردات في البيضاء القريبة من المحميات، وتمرد قبيلة الزرانيق والكثير من القبائل في تهامة. وكانت المجاعات والأوبئة تفتك بالمئات والآلاف. وكان الشاعر نفسه ضحية الإصابة بالجدري؛ مما أفقده البصر وهو في العام الخامس أو السادس من عمره، حسب إشاراته المتكررة في كتاباته.
وهنا تبدأ رحلة ومعاناة وتحدي البردوني الإنساني الجلد والصبور المكافح والعبقري؛ فعاهتي الفقر والعمى على قسوتيهما في مجتمع أمي شديد البؤس و التخلف، لم تمنعاه من مواصلة التعليم في قريته أولاً، ثم الالتحاق بذمار والتي كانت تعرف حينها بـ"كرسي الزيدية" كمركز ديني وتعليمي مهم في حياة اليمن.
 وفي ذمار حفظ القرآن الكريم عن ظهر قلب، وهو في الثامنة أو التاسعة. وقد أجاد قراءة القرآن على القراءات السبع قبل الثالثة عشرة، كما أتقن التجويد وشيئاً من علوم القرآن.
في الثالثة عشرة بدأ يغرم بالشعر؛ فهو طالب في مدينة التدريس والفتوى الزيدية، وهي أيضا مدينة الشعر والأدب والإبداع؛ فهي مدينة الشبثي، الشاعر الشعبي المهم في ذمار ورداع والمنطقة الوسطى. كما أن منطقته أيضاً جزء من منطقة الحكيم الشعبي الآخر علي بن زايد. وذمار منطقة الشعراء والأدباء من آل الوريث وآل الديلمي وآل الموشكي وآل باسلامة، وهي بيوتات شهيرة بالمعرفة والأدب والشعر.
ويتذكر البردوني في حديثه لتلميذه الحارث بن الفضل، أنه ومنذ الثالثة عشرة من عمره بدأ يغرم بالأدب قراءة ومراجعة وتأليفاً، وأنه قد بدأ بقراءة دواوين الشعر القديم.
ولا يحدد فترة معينة لانتقاله إلى صنعاء، ولكن الراجح أنه قد انتقل إلى صنعاء بعد أن وصل مرحلة متقدمة من الإلمام بمعارف عصره من تفسير وحديث وفقه وعلم كلام وأصول وعلوم آلة. وقد أصبحت شهرته تتسع بفضل نبوغه وشاعريته الواعدة.
ويقيناً فإن مطلع الأربعينيات بداية التحاقه بدار العلوم في صنعاء بعد أن درس لبضعة شهور في الجامع الكبير.
ومنذ البدء التحق بالصف الرابع المحتوي على أربع شعب، مما يعني بلوغه مرتبة متقدمة ليصبح بعدها مدرساً للأدب العربي شعراً ونثراً في المدرسة العلمية نفسها التي تخرج فيها. ويشير إلى أنه بدأ تدريس الأدب العربي في المراحل المختلفة بما في ذلك عصر النهضة، وقد درس ودرس الشعراء: شوقي، البارودي، حافظ، وصبري. ومن بعدهم: إبراهيم ناجي، علي محمود طه، أبو القاسم الشابي، وغيرهم.
وتقدم سيرته السردية (غير المطبوعة) وصفاً رائعاً لهذه المرحلة، ومدى أثرها على تفكير الشاعر وإبداعه. وربما أن تفتح وعيه على أدباء ومفكري عصر النهضة قد دفعه إلى معارضة الإمامة الثيوقراطية ونقدها؛ فقد نشرت صحيفة "صوت اليمن" -الناطقة بلسان الجمعية اليمنية الكبرى (حزب الأحرار) والتي صدرت في عدن عام 1946 - خبراً عن اعتقال الشاعر الكبير عبد الله البردوني على قصائده الناقدة للإمامة.
ولم يقف البردوني، الدائم الإبحار نحو شواطئ المعرفة والتحدي، عند تخوم المعارف السائدة في مدرسة ذمار وصنعاء القديمة، بل راح يبحث وينقب عن كتب السنة وعلوم المنطق والفلسفة، بمذاهبها المتنوعة والمتعددة وبمعارف وفكر القرن العشرين؛ فقد كان شغوفاً بالبحث والتنقيب عن الجديد، مما جعل منه عالماً موسوعياً ومفكراً كبيراً. وانعكست ثقافته الواسعة على عمق تجربته الشعرية وسرده المائز.
 ولم يكن البردوني، الذي كان يخصص معظم أوقاته للقراءة، يكتفي بقراءة الكتاب مرة واحدة، فقد كان كثير الرجوع إلى ما يقرأ مع ما يتمتع به من حافظية وسرعة إدراك وبداهة. وكان وقته موزعاً بين الاستماع لقرائه وبين الإملاء. وللإملاء أوقات دقيقة ومحددة. كما أن للاستماع أيضاً أوقاته المحددة.
بلغ البردوني مرتبة الفتيا الدينية بعد تخرجه من دار العلوم التي توازي شهادتها العالمية الأزهرية حسب المنهج المدرس حينها. ولكن البردوني الشاعر والأديب قد تغلب على البردوني القاضي أو المفتي؛ فراح يتابع ويعب من قراءة الأدب العربي والنهضة الحديثة، ويكون مواهبه ومداركه الأدبية.
كما يلاحظ اهتمامه وشغفه بتتبع التطورات الداهشة في الفكر والأدب والفلسفة؛ فهو قارئ جيد لتيارات الحداثة وبالأخص في الشعر. وهو ما انعكس على تجربته الشعرية المنتمية للكلاسيكية الجديدة (حسب النقد المدرسي) ولكنها بمفرداتها وأخيلتها وصورها تمد جذورها إلى الشعرية الأكثر حداثة. وقد وقف الناقد الكبير عز الدين إسماعيل حائراً أمام شاعر "عمودي" تزخر أشعاره بالصور والمفردات الطازجة والأكثر حداثة وتطورا، وتوقع باكراً أن يتمكن البردوني من كسر العمود والإبحار إلى شواطئ أكثر اتساعاً(1).
أما البردوني فالغالب عليه استعانته بالأبنية والتراكيب دون المعجم. إنه يقف في منتصف الطريق: رِجْل في الماضي ورجل في الحاضر. وليس هذا فيما يتعلق بقضية المعجم والأبنية والتراكيب فحسب، بل هو طابع عام لكل موقفه الشعري. إنه شاعر محير. وأظن أنه هو نفسه محير، ومع هذا فيغلب على ظني أنه قادر على أن يخرج من حيرته، وأن يتجاوز منتصف الطريق. وربما شجعه هذا الانطلاق أن شعراء معاصرين مرموقين قد انطلقوا بعد أن كانوا قد وقفوا موقفه، وفي مقدمتهم الشاعر محمود حسن إسماعيل؛ فقد تحرك في السنوات الأخيرة بخطى ملموسة نحو المنطلقات الشعرية الجديدة.
ورأي الدكتور إسماعيل، وإن كان لا ينبغي أخذه على هناته، إلا أن الأهم هو إدراكه لخاصية مهمة في شعر البردوني وهي التمازج بين التقليدي والجديد في قصيدته العمودية. وقد تنبه الناقد الدكتور عبد العزيز المقالح إلى عبقرية وحداثة القصيدة البردونية، وقرأها قراءة أكثر عمقاً وإعجاباً.
يطرح المقالح السؤال الأكثر جوهرية وأهمية: إذا كان البردوني شاعراً كبيراً فما هي خصائص الشاعر الكبير؟
وقبل أن يجيب على هذا السؤال من خلال التتبع النقدي، أود أن أقرر أن الإنجاز الكبير الذي قدمه شاعرنا الكبير في مجال الشعر ليس محل شك، وأنه ليس بحاجة إلى من يثبت هذا الإنجاز الذي به وحده نال صفة الكبير بجدارة، وليس عن طريق المجازفة أو المجاملة، وإنما عن طريق معطياته الكبيرة، وعن طريق تفسير هذه المعطيات وحضورها وتأثيرها الواسع المدى(2).
ويقرأ المقالح الخصائص الفنية عند البردوني، ومنها: القص، الحوار، السخرية، وحدة الصورة، خلق الترابط العضوي بين أبيات القصيدة العمودية من خلال تناسق وانتظام البنية اللغوية والإيقاع الصوتي، كسر حدة الرتابة بكسر حدة الدلالات اللغوية، وبناء صور لا تمت بصلة إلى الذاكرة الشعرية والقوالب الجاهزة. ويرى -ومعه حق- أن الشاعر الكبير هو الذي يستطيع الخروج على الأساليب البلاغية القديمة دون أن يهملها أو يتجاهلها تماماً(3).
ويشير إلى إفادته من أبي تمام و يصفه بالمصور الماهر(4).
يعيد المقالح شاعرية البردوني إلى مضامينه الثورية والرؤية المتقدمة، وليس تجاوز البردوني للمعارف التقليدية، ولا تمرده على القوالب المتوارثة، ولا مهارته في التصوير الفني، هي التي جعلت منه شاعراً كبيراً. ولو أن البردوني قد اقتصر على تلك التجديدات الفنية، وحصر همه في أن يجعل من القصيدة البيتية أو العمود حدثاً فنياً مواكباً لعصره، لما أصبح شاعراً كبيراً حقا في ظل الخصائص الموضوعية، تلك الخصائص المعبرة عن الوطنية والثورية والمستجيبة لروح العصر والمنحازة إلى صف المقهورين والمغلوبين على أمرهم(5).
وقد امتلكت خصوصيته الموضوعية من الجسارة ما قاده إلى جسارة مماثلة في الخصوصية الفنية. ولأنه لا يمكن الحديث عن المضامين العظيمة إلا من خلال الحديث عن الأسلوب العظيم، ولأنه لا يمكن الفصل بين الشكل والمضمون إلا في مجال الدراسات الفنية والنقدية، فقد أعطيت لنفسي الحق في أن أخصص الجزء السابق من الدراسة للخصائص الفنية، باعتبارها في العمل الأدبي الوسيلة التي بدونها لا يبقى من العمل الأدبي أي شيء مهما كان عظيماً ومؤتلقاً(6).
وبقطع النظر عما قد يبدو من تناقض في صياغة أولويات القيمة الكبيرة لشعر البردوني، إلا أن موهبته العظيمة وثقافته الموسوعية، بما فيها قراءته العميقة للقديم والانفتاح على الحداثة وتيارات العصر الحية وارتباطه بمفهوم ومعاناة الإنسان، ومقدرته على الإبحار والتجاوز... كلها قد جعلت منه واحداً من أهم وأعظم شعراء الأمة العربية في خاتمة ومطلع القرن العشرين والواحد والعشرين. وتكون المعارف كلها والمهارة الفنية في صنع الصورة، واستيعاب تقاليد وقيم الحداثة كلها عوامل اكتمال فجر تجربته الزاكية.

* المصادر والمراجع:
(1) "الشعر المعاصر في اليمن.. الرؤية والفن". د/ عز الدين إسماعيل.
دار العودة. ص 244 - 245.
(2) "الشعر بين الرؤية والتشكيلـ". د/ عبد العزيز المقالح. دار العودة. ص 191 - 192.
(3) المصدر السابق. ص 194 - 195 - 196 بتصرف.
(4) المصدر السابق. ص 97 - 98 بتصرف شديد.
(5) المصدر السابق. ص 202.
(6) المصدر السابق. ص 203.