لا يستطيع الرئيس حل قضية لا يعترف بوجودها

لا يستطيع الرئيس حل قضية لا يعترف بوجودها - أبوبكر السقاف

أوضح رئيس الجمهورية في حديثه إلى "الوسط"، 15/8/2007، بجلاء، أن قضية الجنوب أبعد ما تكون عن الحل، بل هي لا تطرح بما هي كذلك بعد أن مزقها أشلاء ونتفا صغيرة، "تم استغلالها" من قبل "أولئك الذين بالغوا بالإثارة في بعض المحافظات الجنوبية"، ورتب على هذه المقدمة الخاطئة حكماً خاطئاً. "فهم أشخاص لا يمثلون غير أنفسهم، ولا يمثلون هذه المحافظات". كلمة "بعض" غير صحيحة في وصفها لما يحدث في كل الجنوب، وهذا أمر كبير وحقيقة ظاهرة تملأ الأسماع والأبصار منذ نحو خمسة أشهر. وأما عزوها إلى "القوى المهزومة سواء في الداخل أو في الخارج، وبالذات أولئك الذين رحلوا إلى الخارج وغابوا عن الأنظار. وكما قيل "من غاب عن الناظر غاب عن الخاطر"، فهو تفسير أقل ما يقال فيه إنه روتيني هنا وفي غير بلد عربي لا يرى حاكمه واقع بلاده، حتى وهو يتدهور باتجاه الهاوية ويتسلى بنسبة كل ما يحدث إلى الخارج، وهذا ضرب من نظرية المؤامرة التي تتحكم في التفكير السياسي لا سيما في الأنظمة الأمنية، التي تجعل الأولوية المطلقة لأمن صاحب الدولة، وبعدها تأتي الأولويات الأخرى المرتبطة بهذا المبدأ الحاكم، الذي أصبح علة وجود الدولة. ونسمع رداً على هذا الفهم للدولة ينداح قادماً من مسافة زمنية، عمرها خمسة وعشرون من القرون، "ولكن الدولة لم تخلق لرجل واحد" (سوفوكليس، انيتغونا).
وهذا الإمعان في الزهو بنصر يبدو اليوم مشكوكاً فيه وغير مجيد ليس من الحكمة السياسية في شيء، لا سيما وقد بلغت القلوب الحناجر.
ولكنه في سياق حديثه يبدو متسقاً مع مقدماته وإن تناقضت مع الواقع والوقائع، فكل هذا الضجيج لا معنى له في نظره، فالأمر بقضه وقضيضه، كما كان أسلافنا يقولون، لا يستحق هذه المعالجة فهو ليس "حالات نادرة"، "وقد حدث تقاعد غير قانوني لحالات نادرة...". إن الواقع محجوب وراء تصورات وأفكار لا علاقة لها به، ولذا يغيب في حدود مجال الرؤية، ولا تسعفه على بعض الرؤية "الحالات النادرة". إنه يحاور تصوره عن الواقع لا الواقع والوقائع.
 وحال قضية الأراضي تجري على هذا المنوال نفسه، إذ يلخصها في "تمليك من وقفوا في صف الوحدة وتعويض الإخوان الذين غرر بهم"، تبدو العدالة ناجزة وكأنها تنزل رحمة وعفوا وغفرانا على الجميع حتى الذين غرر بهم.
لن نذكر الأراضي التي نهبت في أبين وحضرموت. ويكفي ما يلي عن عدن: «وجميع الاعتداءات والتصرفات ضد أراضي الملاك من كافة الجهات الحكومية (المساحة العسكرية، المؤسسة الاقتصادية، هيئة الأراضي)، وهذه فقرة من رسالة من لجنة ملاك الأراضي الزراعية في عدن - لحج وقع عليها 661 شخصاً ("الأيام" 18/8/2007).
بيد أن الذروة الدرامية تأتي عندما أجاب على السؤال المتعلق بالشكاوى من مواطنين كثيرين ضد أعلى المسؤولين، فالمسألة لا تعدو البطء! "أصدرنا توجيهات إلى اللجان المشكلة والجهات المعنية، فحصل بطء منها، مما دعا القوى السياسية إلى استغلالها. وحددنا لها سقفا زمنيا لا يزيد عن شهر". بطء استثنائي عمره نحو 14 عاماً، لم يجترحه حتى حكام الأقاليم والمتصرفيات في عهد الدولة العثمانية، والمكان اللائق به ليس تاريخ علم الإدارة، بل موسوعة غينيس المعروفة التي تحرص على جمع الطرائف والعجائب في صعيد واحد.
اتسم الحديث بالحدة التي تمثلت في أوصاف أطلقها على من كان بالأمس نائباً للرئيس ورئيساً للوزراء ووزيراً للمغتربين دون بينة، إلاَّ الإشادة بنفسه في جمل مترعة بالمدح الذاتي، وكلها لا تتسق و"ثقافة الكلمة" التي يطالب بها نقاده، ونحن نعرف كيف عاملهم بتسامح رفيع، ونذكر تمثيلاً لا حصراً الزملاء عبد الكريم الخيواني، ونبيل سبيع وعبد الله سلام الحكيمي وخالد سلمان وعبد الفتاح الحكيمي.
أما حديث الأفاعي وهو يتكرر عنده في تصوير اليمن والسياسة اليمنية فهو يشي بفلتات اللسان التي يذكرها فرويد في تحليله النفسي للكلمات والعلامات. أما الأفعى ومهندس المال، فالرئيس يعرف من الأفعى ومن صاحب بيت المال، لا سيما في تاريخ الوحدة منذ لحظات النفق إلى النفق الكبير الذي تتخبط فيه البلاد.
اقتصرت هنا على القضايا المتعلقة بقضية الجنوب، والمطالب الكبيرة والعادلة للمتقاعدين المدنيين والعسكريين، وكل الذين ظلموا ويظلمون. ولم يكن الجنوب يوماً ولن يكون مشروعاً صغيراً لحفنة من الساسة، إنه قضية بحجم وطن وسماء حرية وراية. أما المشروع الصغير الوحيد في بلادنا فهو هذه الدولة التي تدعي أنها قائمة باسم قضية كبيرة وتجسدها، بينما هي لا تعدو أن تكون نظام أقلية جهوية جغرافية تتبع داخلها أقلية أصغر منها، ثم مجموعة مغلقة وجد صغيرة بالنسبة لأهل البلاد في الجنوب والشمال والشرق والغرب في دائرة الافتراض والحلم المنشود. فهذه الأقلية وصاحبها هي الدولة. وهي التي تحكم، وما مجلس النواب والوزارات والحزب الحاكم ألا وكالات معتمدة لتعريف الأمور الإجرائية "إمامة" قبيلية معكوسة بدثار قحطاني، ورعاية امبريالية أمريكية.
 مرجع هذه السلطة ليس الشرعية الدستورية، بل القوة العسكرية، وتبدأ من الجمع بين رئاسة الجيش والدولة. ومن هنا فإن مسلمة أن الأصل مدنية الدولة، تحتاج إلى رهان (سؤال الزميل المحاور). إن مدنية الدولة بداية البدايات. وهي التي لم يقترب منها التفكير السياسي في بلادنا حتى اللحظة مع أنها أساس البناء وطوق النجاة، هنا وفي غير بلد عربي وإسلامي.
 إن كل ما جاء على لسان الرئيس في هذا الحديث يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك، أنه لا يريد حل القضايا ولا يفكر فيها من الجانب الصحيح، انه لا يزال يفكر ويقرر داخل نشوة يوم 7/7/ 94* وأنه يبدو غير مبالٍ بحركة الزمان، وبأن الناس ينضجون داخل عذابهم فيقررون مواجهة المصير، وأن الجمهور ليس دمية تحرك من قرب أو بعد، وأن المراهنة على شق الصفوف وملل الناس وقلة صبرهم، أمور لا تصدق دائماً. لا سيما عندما يكون الحق أوضح وأبهى من شمس عدن.
18/8/2007
 
* نشرت صحيفة لا يحضرني اسمها أنه تم صرف أراضٍ في عدن لسراة البلاد وأعيانها وأنجزت الإجراءات في الأسبوع الذي بدأ ب7/7/2007 والاعتصام الكبير. ومعروف أن الصرف في عدن بيد الرئيس وحده.