يموتون في الشوارع بهوية مجنون

يموتون في الشوارع بهوية مجنون - بشرى العنسي

«خمسة وسبعون سنة» العمر الذي خمنه أحد المارة لذلك الذي خلف وراءه وسادة سوداء وفتات من الأكل المتراكم، الدال على أن شخصاً تمدد هناك لفترة طويلة.
عند سور صنعاء القديمة، المقابل للمؤسسة الاقتصادية، وحيث تقف باصات الرويشان لنقل المسافرين، في مساحة صغيرة من ذلك لمكان وجدت جثته الأسبوع الماضي، مجهول الهوية لا يملك سوى إسم «مجنون». وكل ما يعرفه عنه المارة وأصحاب المحلات هو أنه قدم إلى ذلك المكان منذ ثلاثة أشهر تقريباً، وتمدد على تلك الوضعية التي وجد عليها ميتاً «مجنون ما نعرفيش».
«ثلاثة أشهر تقريباً على نفس الحركة»، «مريض أشوفه دائماً ما يحتركش»، «في واحد مجنون يجلس جنبه يأكله دائماً»، هذه كانت كل هوية ذلك الشخص، الذي كان حينها ممدداً فوق سيارة البحث الجنائي ولا تظهر منه سوى قدميه السوداوين، المليئتين بالجروح. مدير البحث الجنائي بمنطقة معين، رفض الحديث، كما أسكت العسكر الذين كانوا بجواره والذين زعموا أنهم أسعفوه للمستشفى أكثر من مرة، كما اسكت المواطنين الذين هبُّوا لرواية مايعرفون وما رأوه ولا أدري كذلك بماذا هدد المجنون «رفيق المجنون المتوفي» الذي حضر متأخراً ثم غادر وهو يتمتم بكلمات غير مفهومة.
 
شيء مألوف
مشكلة المجانين ومفترشي الأرصفة، أصبحت شيئاً مألوفاً للمارة وخاصة في الصباح، حيث أصبح الشارع مأواهم الوحيد، متخذين منه زوايا بمثابة البيت. الذي يراهم يحتار بين مشاعر الأسف ناحيتهم كونهم بلا مأوى، وبين الشعور بأن منظرهم على الأرصفة غير مستحب في شوارع العاصمة. الحكومة لم تتخذ أي حل جذري لمشكلتهم وكل ما تقوم به، حسب إدارة المخلفات في مشروع نظافة العاصمة، هو أخذهم إلى مناطق خارج صنعاء والذين عادة ما يعودون إلى نفس الأماكن. وتقول الإدارة بأن هذه مشكلة تعاني منها وهي القضية المطروحة حالياً في مكتب أمين العاصمة.
طبيعي أن تظل المشكلة كما هي وأن يتمسك المجانين بمساحتهم التي سطو عليها في أرصفة صنعاء ما داموا لم يجدوا المكان لاحتوائهم. فحتى الآن لا توجد مصحة حكومية للأمراض النفسية كي تستوعب هؤلاء الذين ضجت بهم الشوارع، ففي أمانة العاصمة يوجد مستشفى واحد «قطاع خاص»، إضافة إلى قسم في مستشفى الثورة خاصة بالأمراض النفسية وما عدا ذلك فلا مكان آخر سوى الأرصفة التي تحتضنهم حتى الممات.
صنعاء القديمة رغم أنها موفد لكل السواح، إلا أن ظاهرة مفترشي الأرصفة لا تفتأ تفارقها صدام حسين، أحد قاطني المنطقة، قال لـ«النداء» مستنكراً: «هذه منطقة سياحية والله إنه بهذلة وتشويه لسمعة اليمن». في حين رد آخر بأن على وزارة السياحة تحمل المسؤولية، فالمجانين في كل شارع ورصيف.
حسن القريطي مدير عام مديرية صنعاء القديمة، رد على «النداء» بقوله نحن نقوم بالمكافحة باستمرار، ولدينا مشروع متكامل لمكافحة التسول، وكذلك مصحة متكاملة في الأمانة. لكني لا أدري عن أي مصحة كان يتكلم القريطي! ولا أين هي موجودة، الذي شعرت من خلال كلامه بأن صنعاء تخلو من المجانين والمتسولين.
في حين أن «وليد عنبه» رئيس لجنة التخطيط والتنمية في المجلس المحلي بالمديرية، قال: بأنهم عكفوا منذ شهرين على «وضع خطة شاملة لصنعاء القديمة وإيجاد قاعدة بيانات يمكن من خلالها معالجة المشاكل التي تعاني منها المديرية، بما فيها موضوع المجانين». وأضاف بأن المسؤولية موزعة بين الأمن ووزارة الصحة والمجلس المحلي. وأردف: «أيش نفعل المفروض يكون في مكان لهم».
ونوه عنبه إلى أن المركزية وعدم توفر الصلاحيات يعيقان عملهم كمجلس محلي.
قضية المجانين وخاصة في صنعاء القديمة، لن تنتهي ما دام حل الحكومة هو أخذهم إلى بني مطر وحزيز...
وطالما ما فيش مصحة تستوعبهم، ستظل القضية كما هي، وسيظل الشارع وطنهم ومقبرتهم.
الغريب أن كثيرين يظنون أن هؤلاء المجانين ماهم إلا أمن سياسي. وربما يكون هذا صحيح وإلا ما مصلحة الحكومة في بقائهم في الشوارع؟ ولماذا لم تخطو أي خطوة جادة نحوهم!؟