حضر.. موت

حضر.. موت - منصور هائل

يتعجب الكثير من الاصدقاء والزملاء في صنعاء كلما تناهى إليهم صوت الأنين والتأوهات والتوجعات من المكلا -مثلاً- وهي تقول بفظائع الارتكابات والتعديات والانتهاكات والنهب والسطو على الممتلكات العامة والخاصة، والمصادرة للحدائق والشواطئ، والتجريف لمزارع الاسماك والشعاب المرجانية، والاستحواذ على ساحات المدارس وملاعب الاطفال وأرصفة الشوارع، وردم وكبس المتنفسات والاستراحات العائلية، وانفجار التلوث وتفشي السرطان -اللوكيميا تحديداً- وإعدام النخيل، ومحو وطمس ذاكرة الأمكنة بهدم المواقع الاثرية، وكتم وشطب أنفاس التاريخ ومعالمه وشواهده، وكأن كل تلك المواقع والمعالم كانت قابعة في حضرموت في انتظار من يأتي ليصححها كأخطاء مطبعية اقترفتها الطبيعة.
ويتعجب هؤلاء الزملاء من سماعهم لشكوى المكلا من تعويم جرائم الاغتيال والاغتصاب والقتل (القتل طعناً آخر صرعة) وإحياء ما مات واندثر من عداوات وثارات منذ عقود مديدة، وإعادة إنتاج ما تبدد وفات من قيم وولاءات ومنظومات احتماء وملاذات أولية: عشائرية، قبلية...الخ.
ولا أعجب من هؤلاء الزملاء إلا تعجبهم مما يسمعون وهم على قناعة بأن صوت شكوى المكلا هذا يأتيهم من كوكب آخر وبلغة أخرى وهو غير قابل للتصديق ولا يستوجب غير التندر، كما لا يدعو سوى لبعض الالتفات وبمقدار ما يشير إلى واقع أن اليمن لم تخلُ بعد من الكائنات النادرة، مثل «أصحاب المكلا هؤلاء».
ولما كان هؤلاء الزملاء من المثقفين والسياسيين والصحفيين، فإن مستوى العنف فيما يفعلون يبدو في أقصى درجاته حيث يتجلى بتلك اللاأبالية الفادحة واللااكتراث المصحوب باستعلاء يستبله الشكوى وصاحبها، ولا يرى فيها ما يثير الفضول، أو يستفز المشاعر والاذهان والعقول.
والمحنة أنهم لا ينظرون إلى شكوى المكلا إلا بمقدار ما هي معطوفة على ما كان من أهوال في الحديدة، ومجرورة بما حدث ويحدث في تعز والحديدة وصنعاء من مصائب وبلايا.
هكذا يتباهى هؤلاء باكتساب المناعة من الألم، والحصانة من القشعريرة والرعدة، ويتكرسون كمقابر جماعية للمشاعر والاحلام، ويتجذرون بالخراب بتوحد لا يحد، وينعمون بهذا النوع من الاقامة في القيامة في إطار من شبكة صيد تمنعهم من رؤية الفزع تجاه مرأى الجرح النازف أو الرأس المقطوع، ولا تمنعهم من النظر لجراحات وويلات المكلا باحتفاء بتأهيل الناس «هناك» ليكونوا أخوة في الخراب تحت راية «الوحدة» المعمدة بالدم، أو النظر إلى ما يحدث «هناك» من زاوية اندراجه في نطاق «البداهات» وعاديات «الوحدة» ونظامها!
وكما لو كانت محنة الناس في المكلا تكمن في عدم افتقادهم للإحساس بالألم والندم والظلم وغير ذلك من النوافل «الانفصالية» التي ينبغي عليهم الاقلاع عنها في سبيل الوحدة!
والحال أن هذا الحال يشهد على أسوأ أشكال «الإنفصال» وينذر بما هو أسوأ تحت ظلال سيادة ثقافة الموت هذه التي نشهد تمظهراتها وممارساتها المتفشية في مناخات استشراء النهب والفساد والعنف والتطرف وغياب القانون ودولته لحساب طغيان حضور قانون القوة وتوحش غابته، ما يعني أن الموت هو الحاضر الأكبر في البلاد وحتى الآن -على الأقل.
mansoorhaelMail