قلبي أخضر!!*

قلبي أخضر!!* - حميد شحرة

- إلى معجزة الخالق التي أبدعها لتكون مسرانا إلى الحياة..
 
لا تحظى كل يوم باكتشاف مثير، يعيد الدفء إلى حياتك.. لأن تيار الحياة الجارف، لا يجعلنا نتوقف لحظة لنكتشف شيئاً جديداً.. وإذا ما حدث وأن توقفنا فلكي نلتقط الانفاس لنواصل الركض في كل اتجاه..
ثمة فجوات في الذاكرة، وثقوب سوداء تلتهم معظم سنوات العمر الماضية؛ ولهذا السبب أحيا لحظتي مجرداً من الذكريات أعزل من كل خبرة أعطيتها تجاربي السابقة.
لكن لم يحدث لي أبداً أن حظيت بفرصة رائعة كالتي حصلت عليها الآن..
إنه اكتشافي الأروع والأجمل، الاكتشاف الذي أعادني من جديد إلى مفترق الطرق حين ضيعني سنوات عديدة.. تاهت خطاي فيه وكنت بلا ذاكرة تحفظ معالمه..!!
أعترف أن انتظار المفاجاءات جزء من تكويني الروحي، وأن ما نحاول أن ننكره ونزعم أننا نستخف به يقبع في زاوية مظلمة من أعماقنا. ربما يسخر من محاولاتنا إنكار معرفتنا بوجوده. بينما هو يوجه اشواقنا واحلامنا من مخبئه البعيد، فنركض في سباق الحياة وراء وهم أننا نعرف ماذا نريد،ونسعى إليه!! متدثرين بلغة رياضية صارمة، وبحسابات لا تنتهي، ليست سوى مغالطة واضحة لذلك الشيء الذي نخفيه وننكر وجوده. وهو الحقيقة الكبرى التي تتجلى وتكشف عن نفسها في لحظة نادرة كاللحظة التي عشتها مساء يوم قريب!!
كنت قد آويت إلى فراشي عند منتصف الليل، مرهقاً متعباً أحصي خصوماتي وأصنف انتصاراتي وأُنكِّل بأعدائي كعادة العاجزين، و أحس بعبء ثقيل يرزح على كاهلي، زاده الصمت ثقلاً، واكتسحني أرق مرعب، تغشاني فجأة ثم بدأ ينسحب بهدوء مع دقات الساعة التي تسابق نبضات قلبي.. واحسست بصفاء لم يسبق لي أن أحسسته، وهدوء لم أذقه من زمن طويل.. ولا شيء غير سباق دقات الساعة ونبضات القلب..
بغتة اكتشفت أنني لا أزال حياً.
اذهلني الاكتشاف.. وتذوقت حلاوته.. شعرت به كائناً حياً.. محسوساً وملموساً.. له وهج الضوء وخضرة النبات ورائحة الياسمين.. ورونق الألماس.. كائناً جميلاً ودافئاً يحتضن دقات قلبي، ويعيد لي اكتشاف حياتي.
همست لنفسي: مازلت أعيش لم أمت بعد، وبإمكاني أن أعيش مجدداً.. بإمكاني أن أحيا مرة أخرى.
الذين نسوا أن يقبروا أنفسهم لكن أشواقهم دفنت منذ زمن طويل، لن يجدوا في اكتشافي إلا الهراء.
الموت، ليس ما نراه يومياً من مفارقة الأرواح للأجساد.. ثمة موت يسبقه وملايين الجثث حولنا تأكل وتتنفس وتنام وتصحو وتعمل وتقاتل بضراوة من أجل مكاسب أحرزتها وتخشى فقدانها أو تسعى للحصول عليها، لكنها مجرد جثث فارقها شعورها بأنها ما زالت تحيا، وبإمكانها أن تحيا حتى يتوفاها الله.
الموت الذي يتعطل بسببه الجسد ويتوقف عن العمل هو مرحلة أخرى لحياة أخرى تستعيد به الروح قدرتها على الإنطلاق بقدر ما حصدت في فترة سجنها البدني.. لكن الموت الذي اصاب الأجساد المعافاة والسليمة هو ذلك الذي فقدت فيه الأرواح أشواقها.
لحظة اكتشافي.. لحظة ميلاد جديدة.
أعود فيها إلي قبل أن أصبح آلة تمارس حياة آدمية بلا روح.
لي تلك الأشواق الغامضة التي لا تحدها حدود الدنيا قاطبة.. ولا تقمعها قوانين البشر، ولا قواعد المجتمعات.
استعيد رغبتي في الحلم.. وأبيح لنفسي تشكيل عالمي الخاص، يخضع لجنوني ولنزواتي وتقلبات مزاجي.
استعيد ضحكتي المفقودة.. وقلبي الأخضر الطري وسذاجة تفكيري تجاه العالم وحمقي الباذخ في التعامل معه.. ودهشتي من قبحه وركاكة منطقه..
استعيد حريتي في أن أقول ما أرغب في قوله لا ما يجب أن أقوله.. لا أراعي حشمة لساني.. ولا حياء تصرفاتي.
أعود كما أنا قبل أن تموت نفسي.. خفيفاً من عبء جثتها التي أثقلتني.. وأحنت قامتي ورسمت كآبة العالم في ملامح وجهي.
أعود أنا الذي فقدته عندما قررت أن أحيا كما يحيا ذوو النفوس الميتة وأنا أنازلهم في ميدانهم وفق قواعدهم، كي أصبح أفضلهم.. فصرت مثلهم جثة تنتظر أوان دفنها!!
لحظة ميلادي الجديدة أدركت أنني لم آت لهذا العالم! كي يخضعني لقوانينه الآلية الجامدة.
مكتوب على جبيني: حر؛ لذا كنت أتململ كل صباح وأنا انتظر مفاجأة تعيد لي ما فقدته..
والقلق يعصرني كل مساء.. وأنا أترقب شيئاً لا أعرفه، حدثاً جليلاً يحررني من قبضة العالم الذي أسلمت نفسي إليه..
وهذا المساء.. أخضرّ قلبي.. وعدت إلى حياتي التي فقدتها عندما جرفني شوق غامض باتجاه المفاجأة.
* مقال للفقيد لم يسبق نشره