تعليق على صورة... الصرخة* - عباس بيضون

تعليق على صورة... الصرخة* - عباس بيضون

لا اعرف إذا كان لائقاً أن أقول إن صورة الفتاة التي تصرخ جنب جثمان والدها استدعت لي فوراً لوحة كوكوشكا النمساوي الشهيرة العاصفة، لا اعرف إذا كان الاستدعاء لائقاً لان لوحة كوكوشكا تصوره وصديقته الما ماهلر في مهب العاصفة. إنها لوحة حب جنوني فالعاصفة التي تحمل العاشقين في هبوبها هي ايضا تثنيات وتعاريج جسديهما ولسنا نستطيع ان نفرز الجسدين من العاصفة فالعاصفة هي دوران جسديهما وهي اندفاع هذين الجسدين وانطلاقهما في الريح. استطيع ان اقول شيئاً مماثلاً عن صورة هدى وهي تصرخ جنب جثمان والدها. استطيع ان اقول ذلك عن الشاطئ الذي بالكاد يبدو شاطئاً في الصورة والذي يمكن ان يكون خلاء مريخيا او ديكوراً ورقياً او حتى عاصفة رملية ان لم يكن نوعاً من بحر اصطناعي. هذا الشاطئ الذي ليس شاطئاً يبدو واقعا لا يمكن تسميته ولا يمكن حصره. واقعا هو سائل بقدر ما هو صلب متناثر بقدر ما هو متكتل وسديمي. لا نعرف إذا كانت الكاميرا التقطت ايضا الساعة التي دار فيها المكان. وهي ايضا ساعة لا يمكن حصرها. ونعرف إذا كانت الغارة فعلا نبشت المكان وجعلته مسننا هكذا ومتشظيا. فالشاطئ الذي ظهر في الصورة يبدو شبه مبقور او شبه مجوف. ما نراه هنا اشبه بجسد مهشم. الشاطئ في الصورة مهشم الى حد، ما يظهر في الصورة لسبب لا نعرفه ساعة الغارة، انها الساعة التي لا يزال الشاطئ يدور فيها، تلك الخطوط اللولبية المزرورقة المتوازية المتداخل تكاد تزف في بعض المطارح تكاد تتوحل او تتلطخ.
لقد اصاب المكان ما جعله مصعوقا تقريبا. ان الخطوط هنا شبه مشلولة. الخطوط اللولبية تتحرك بتعثر. ليست بطيئة فحسب ولكن ايضا شبه معاقة، انها تتحرك بجسد ثقيل. جسد مصاب في الغالب. جسد خرجت اضلاعه وعظامه وهياكله. الرمل شبه متحجر وهو يزحف ويضيع تموجاته ويغدو في مطارح منه ممحواً، لا يسافر هذا المكان كعاصفة كوكوشكا ولا يحمل معه الجسدين العاشقين. المسألة اصعب هنا. اذ المكان الجريح يمشي على أطراف دامية غالبا. لا يسافر لكنه يتحرك بالطبع يتحرك فيما يتكلس ويتحجر ويختنق بنفسه. ليس شاطئا حقيقيا بالطبع انه الآن بلقع تقريبا، وهذه الفتاة التي تصرخ لا تقف فيه. انها تميل عنه كما لو كانت لا تستطيع ان تستقر فيه، كما لو كان، بلا جاذبية او كان ينزلق من تحتها، ثمة توازن عجيب قد يشبه توازن المسافرين في مركبة فضائية، تلك التعرجات المشلولة الجامدة التي تجر نفسها لا تستوعبها كما تستوعب عاصفة كوكوشكا جسد العاشقين مع ذلك فإن صرخة الفتاة المخنوقة غالبا المشلولة غالبا تتداخل في هذه الأثلام المتصخرة المسننة، انها ايضا مصعوقة ومشلولة ولا تكاد تخرج، الفتاة في ميلانها تبدو منفصلة عن الصورة لكنها ايضا مولودة من تعاريج الرمل المزرورقة. حركتها ضد حركة الرمل لكنها مثلها فاقدة حركتها وغير قادرة على احتمال ثقلها، انها مثله تصرخ في بلقع وصرختها تتحجر كما يتحجر الرمل، جسدها المائل كعقرب ساعات معطل جانح متعثر وقادر بصعوبة على ان يوجد ذلك التوازن الغريب وأن لا يقع. كل شيء جانح مائل فاقد الوجهة في هذه الصورة. فقط الرجل المغطى النائم يبدو وكأنه نجا من تلك الحركة المعاقة، نجا من فقدان التوازن، ومن الصعقة التي يحيل كل شيء الى بلقع وإلى غرابة مريخية وإلى تحجر واصطناع. الفتاة نفسها اشبه بالدمية. ان طفولتها محترقة ومشيئة، صرختها واقفة وعالقة، اثلالام الرملية وراءها اشبه بديكور كرتوني. كل هذا اصطناع كبير، الرجل الراقد وحده الذي خرج من الزلزال وما يظهر في الصورة هو تقريباً ما بعد الزلزال انه ما يظهر في الصورة هو الحياة التي خرست بعد الغارة، ما يظهر ايضا هو ذلك المتحف بعد الغارة التي جمدت الحياة في لحظة الصفر، الفتاة تصرخ لكنها صرخة تخنقها هي، تخشبها، ترميها خارج الاطار، تحولها الى دمية، الرجل نائم لكن في رقدة معدنية بلا صوت، انه وحده الذي لا يطبع في الخطوط اللولبية في توازنها الصعب، يدخل مثلثه ساكنا وصامتا لكن راسخ وصامد، الصرخة لا تزال في مكانها ينبغي وقت طويل لتنفك اللعنة، عندها لا نعرف ماذا سيحدث، ستتحرك الخطوط اللولبية ويصخب الموج وتعود الحياة الى الصورة. لن يوقف شيء تلك الصرخة المحبوسة التي ستطول وتطول ولا نعرف اذا كانت كصرخة بطل طبل الصفيح قادرة على ان تهر زجاج العالم.
انه تعليق، لا نستطيع شيئا آخر سوى التعليق، تعليق ألم وتعليق حس وتعليق صرخة داخلية، تعليق لان الألم كما يقول تراكل يحجر العتبة. الفم الكبير الذي اطلق صرخة مونش يأتي ذات يوم ويبتلع العالم.
 
*  عن «السفير»