فلسطين.. رهانات خاسرة

فلسطين.. رهانات خاسرة - عبدالباري طاهر

ليس العيب في الرهان الفلسطيني على السلام؛ فقد تنبأ رسام الكاريكاتور الشهيد ناجي العلي وراهن على حجر الطفل “حنظلة”، في رسمين شهيرين، أكثر من رهانه على الجيوش العربية، أو القيادات المنفوخة البطون التي سخر منها أيما سخرية.
رسم “العلي” “حنظلة” وهو يحمل صخرة عظيمة ليقذف بها في وجه الاحتلال وكتب تحته: “وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم”.
أما الكاريكاتور الثاني فصورة “حنظلة” عائداً من الحج وهو يحتفظ “ بحجارة رمي الجمرات “ ليرمي بها المحتل الإسرائيلي الغاصب؛ فهو الأولى بالرجم.
ولم تمضِ بضعة أعوام حتى تفجرت الانتفاضة الأولى 87 لتنجز في أقلّ من عامين ما عجزت عن إنجازه جيوش البلاد العربية، وبالأخص دول الطوق التي عجزت عن تحرير أرضها المغتصبة في هزيمة 67.
فتحت الانتفاضة الأولى 87م نافذة للسلام عبر المقاومة السلمية عبر احتجاج حجر الطفل الفلسطيني الذي تنبأ به واحد من أهم رسامي الكاريكاتير في العالم في خاتمة القرن العشرين. ووقعت إسرائيل راغمةً على اتفاقات “أوسلو” و”مدريد” التي بموجبها عادت منظمة التحرير الفلسطينية إلى الداخل.
وكان القبول الإسرائيلي في جانب مهم تكتيكياً ومؤقتاً. وتوافق الليكود وصقور حزب العمل -بعد اغتيال رابين- على العودة مجدداً للنكوص عن كلِّ ما وقعت عليه إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية بزعامة “ أبو عمار “.
وفجَّرَ شارون بزيارته للقدس عام 2001 الحرب الشاملة ضد الفلسطينيين. ولم يكن الرد الفلسطيني موفقاً حين خلط بين مقاومة الاحتلال واستهداف المدنيين الإسرائيليين؛ مما أضعف التعاطف العربي والدولي مع قضية من أهم قضايا حركات التحرير الوطنية، والمعتبرة أطول قضية احتلال في العالم وآخر ضحية في الكون لنظام فصل عنصري وتمييز عرقي.
الأعمال الإرهابية، ممثلة باستهداف المدنيين، أعطت الذرائع لإسرائيل لتسعير حرب غير متكافئة عليها، أو نجم عنها حرب إبادة طالت الإنسان عبر تدمير المدن والقرى، واجتياحات بشعة يومية، وقتل جماعي لمواطني الضفة والقطاع، واقتلاع الأشجار بما فيها شجرة الزيتون المقدسة! وتجريف التربة، وصولاً إلى بناء جدار الفصل العنصري. وغابت أو تراجعت الاحتجاجات الدولية وحتى العربية، وجرى ما يشبه التساوي بين الضحية والجلاد.
جاء أبو مازن ليراهن بالمطلق على حل سياسي سلمي. مأساة أبو مازن أنه جاء بعد أن تخلت إسرائيل بالمطلق عن كل خيارات السلام: قرارات الأمم المتحدة التي لم تقبل بها في يوم من الأيام، والاتفاقات الدولية ابتداءً من “مدريد” مروراً ب”أوسلو” وما تناسل منها. وتماهت عقب كارثة ال 11 من سبتمبر السياسات الأمريكية والإسرائيلية في مواجهة ما اصطلح على تسميته “ مكافحة الإرهاب “.
وتساوق الموقف الأوروبي مع التوجه الأمريكي: “الحرب الاستباقية”، وتصنيف كل المقاومات الوطنية إرهاباً: العراق وفلسطين مثالاً، وازداد الموقف العربي خذلاناً وتشرذماً.
في حين راهنت الأذرع المسلحة في فتح و حماس والجهاد والشعبية، على الرد العسكري. و كانت الخطيئة الكبرى المزج بين المقاومة المشروعة واستهداف المدنيين.
أدى إطلاق الصورايخ –البدائية– على المستوطنات إلى إخفات الأصوات الاحتجاجية المتعاطفة مع الحق الفلسطيني، وتساوي الضحية والجلاد في حرب غير متكافئة استعمارية حد البربرية والإبادة.
تباعدت المواقف الفلسطينية حد التضاد؛ ففي حين رفضت الأجنحة العسكرية خيار السلام، المرفوض أصلاً من قبل إسرائيل، راحت قيادة فتح، وتحديداً تيار أوسلو، تدين المقاومة، وترمي بكل الثقل وراء خطة الطريق التي وأدها شارون بتحفظاته الأربعة عشر مُوزَّرة بالتأييد الأمريكي.
كانت الانتخابات الحرة والنزيهة حقاً منعطفاً جديداً في الحياة السياسية الفلسطينية. وفي حين قبلت ظاهرياً قيادة فتح وأبو مازن بالنتائج التي جاءت بحماس، إلا أن القيادة العسكرية والأمنية الفتحاوية راحت تنصب الفخاخ وتراهن على إفشال الحكومة المنتخبة.
المفارقة أن حماس التي وصلت إلى الحكم بمقتضى اتفاقات أوسلو، رفضت الاعتراف بها، بل راحت تقامر أكثر من اللازم على المقاومة والخيار العسكري (المجمد) منذ هدنة القاهرة بين إسرائيل ومختلف الفصائل الفلسطينية وبالأخص فتح وحماس.
المأساة أن يجمد الفعل العسكري عملياً وتظل المقامرة والمزاودة عليه في الخطاب السياسي والإعلامي.
انتصار حماس الديمقراطي والمباغت أكد دعاوى إسرائيل في عدم وجود شريك فلسطيني، وأدى إلى فرض حصار جائر شمل المرتبات والدواء ولقمة الخبز.
وبدلاً من توافق إرادة الفصائل الفلسطينية على مواجهة “ تصفية قضية شعبهم “ راحوا يتصارعون على الاختصاصات، وأيهما أجد المقاومة أم المفاوضات؟
واتجه “الطرفان“: حماس وفتح إلى عسكرة الحياة، وتحشيد الشارع المعبأ بالغضب والمحاصر بالمجنزرات والصواريخ وما يشبه حرب الإبادة الإسرائيلية، في مواجهة بعضهما.
تحول الصراع إلى صراع عريان على السلطة، غير الموجودة طبعاً، أو على الأقل المحكومة بجيش الدفاع الإسرائيلي الذي يحتل المدن والقرى يومياً، ويغتال ناشطيها ويقتل أبناءها.
في هذه الأجواء شديدة الخطورة تأتي وثيقة الأسرى الفلسطينية لتساعد على مخرج من الأزمة، وفتح أفق للحوار، ولكن التصارع قد حولها إلى زيت يشعل نار الأزمة، بسبب التوظيف لها كورقة صراع واستفتاء بدلاً من مادة تحاور ووفاق.
حرب الإبادة الإسرائيلي ضد الفلسطينيين قوبلت بتصارع مميت بين الأجنحة العسكرية لهذه المنظمات، ويعتدي المسلحون المتفلتون على مؤسسات الدولة “الموعودة “ والمنتخبة حقاً، ويترك لإسرائيل حرية الإبادة وجر الرأي العام الدولي -ومنه العربي- للقبول بها كصمام أمان لحماية الفلسطيني من نفسه، والخشية أن يجعل من الاستفتاء بوابة صراع يبدأ ولا ينتهي.