مأساة دارفور وأزمة الضمير الإسلامي.. الأبعاد المتعاكسة لازدواجية المعايير

مأساة دارفور وأزمة الضمير الإسلامي..الأبعاد المتعاكسة لازدواجية المعايير

مجيب الحميدي
يدرك القارئ لموروثنا القديم في الفقه السياسي مدى توسع الفقهاء -مجبرين لا مختارين- في إطلاق صلاحيات الحاكم وحشد التبريرات لتصرفات السلاطين وفجورهم وتماديهم في أموال وأعراض الرعية ودمائهم بالباطل. وفي هذه الأجواء الملبدة بغيوم الاستبداد والحكم الجبري صاغ فقهاؤنا فقهاً سياسياً يسميه الدكتور فؤاد البنا "فقه الطوارئ"؛ فقد تمت صياغته تحت سياط المتغلبين الذين فرضوا الأمر الواقع على حين غفلة من الأمة، فأصبح الأمر الواقع ديناً استنبط منه فقهاؤنا الأحكام السلطانية، فأطلق هذا الفقه السلطاني لسيفه العنان ليتجول في رقاب الخارجين والمتمردين على طاعة ولي الأمر، ليطير رأس الشيخ الجليل سعيد بن جبير، وتطايرت قبله وبعده رؤوس كثيرة، وبنى حكام الجور من جماجم العلماء الصادقين فقهاً سياسياً يوجب الطاعة والصبر للحاكم "ولو جلد ظهورنا ونهب أموالنا".
ولهذا لا يستغرب الكثير من فقهائنا اليوم أن يقْدم أحد الزعماء على تصفية مئات الآلاف من المسلمين من أبناء شعبه وتشريد مليوني مسلم، ولا يكلفون أنفسهم عناء التأكد من هذه المعلومات، ولكنهم يستغربون كثيراً من معارضة هذا الزعيم الواجب الطاعة، ولو اجتز الرقاب واغتصب النساء وشرد الملايين، فيكفي أن يقول هذا الزعيم: "الله أكبر ولن نركع لأمريكا" حتى نغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. فإذا تدخل الغرب للنجدة ثارت ثائرتنا وتذكرنا اختلال المعايير الدولية والانتقائية في تطبيق العدالة الدولية وغيابها في فلسطين والعراق وحضورها في السودان والبوسنة والهرسك.
وحتى لا يفهمني البعض خطأ أود تأكيد رفضي المطلق للتدخلات الخارجية وتسييس العدالة الدولية؛ ولكن هل سيقبل البعض أن ندعوهم بأن نخرج على صعيد واحد ونلعن الغرب وأمريكا وأم أمريكا وجدة أمريكا ونلعن المحكمة الجنائية الدولية وأمها وأباها، بشرط أن نضيف إلى قائمة الملعونين كافة من سفك دماء المسلمين وقتل عشرات الآلاف منهم وشرد الملايين ووفر الذرائع لأعدائنا ورفض الانصياع لنصيحة من طلب منه نبذ ازدواجية المعايير وأن يتعامل مع المسلمين في غرب بلاده كما تعامل مع المسيحيين في الجنوب، فتولى واستكبر مستقوياً بالعسكر، فقتل من المسلمين -كما قُدّر- عشرة آلاف مسلم فقط لا غير ومائتي ألف مسلم كما قدرت المنظمات الإنسانية... وبعد أن وقع الفأس في الرأس «وقتل كيف قدر» قال الكثير من المسلمين: «أنى هذا؟ قل هو من عند أنفسكم» وقديماً قيل:
لا يفعل الأعداء في جاهل
ما يفعل الجاهل في نفسه
ألا نحتاج –إذاً– إلى وقفة جادة ضد كل المعايير الازدواجية. فكما نرفض ازدواجية معايير المحكمة الدولية لماذا لا نرفض معايير الإسلاميين المزدوجة في التعامل مع مجازر الأنظمة العسكرية ومقابرها الجماعية، في سورية حماة وفي عراق صدام وفي مصر عبدالناصر وفي دارفور البشير... لكي نكون شهداء لله قوامين بالقسط؟! لماذا لا نرفض ذرائع هذه الأنظمة لارتكاب مجازرها المتمثلة بالاتهام بالعمالة، وهي التهمة ذاتها التي ساقتها الأنظمة القومية في العراق وسورية ومصر لتبرير المجازر وتساق اليوم في السودان؟!
كان من المفترض أن نلوم المجتمع الدولي على صمته المريب حيال المجازر الوحشية في دارفور، فهو لم يحرك ساكناً لوقف تلك المجازر طوال السنوات الماضية، ليكتفي بإدانة السلطة من بعد.
ومع احترامي للدموع التي ذرفت تضامناً مع الرئيس السوداني عمر البشير، فإني أتساءل: أين كانت هذه الدموع يوم كانت دماء المسلمين في دارفور تراق بدم بارد، وآلاف المسلمات المشردات والأطفال الرضع يلفظون أنفاسهم الأخيرة في الصحراء لا يجدون قطرة ماء؟! ولن أتحدث عن اغتصاب النساء على يد العصابات العربية التي سلطها الحاكم المسلم على القبائل الأفريقية! لست أدري لماذا غاب الحديث عن نصرة الشريعة يوم كان الملايين من الولدان والنساء في دارفور يصرخون «ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالمي أهلها»! لماذا لم نسمع خطيب جامع يدين مجازر العصابات، لم نسمع أحدا يدعونا للتبرعات؟! هل لأن الجاني ينتسب إلى الحركة الإسلامية؟! أم لأن الضحايا من القبائل الأفريقية والمجرم عربي!؟ ولنا أن نتساءل هنا عن دور مشاعر العصبية القومية والشعارات الوطنية في تخدير الضمير الإسلامي والإنساني تجاه معاناة ملايين الضحايا، رغم التعاطف الكبير مع معاناة الجلاد.
أعرف جيداً أن الكثيرين يستغربون طرح مثل هذا الأسئلة، وقد استغربت مثلهم عندما أعلن المرشد السابق للإخوان المسلمين الشيخ مصطفى مشهور، في ذات صدق مع الله، في افتتاحية مجلة "لواء الإسلام"، براءته إلى الله من جرائم حاكم السودان العسكري بعد اقترافه مجزرة بشرية بتصفية كبار خصومه في عام 1990 وتواطأ مع البشير حينها فضيلة الدكتور حسن الترابي قبل أن تدركه صحوة الضمير فيتوب إلى الله متطهراً من جرائم الأنظمة العسكرية. وبالمناسبة الدكتور الترابي ليس قرآنياً كما حاول فضيلة الدكتور غالب القرشي الإيحاء بذلك في أحد مقالاته في صحيفة "الناس"، ومن يقف معه في تعظيم حرمة النفس المؤمنة قبل كل الحرمات ليسوا قرآنيين فحسب، فجميعنا قرآنيون ومحمديون أيضاً، نهتدي بهدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الذي طاف بالكعبة وقال لها: "ما أطيبك وأطيب ريحك! وما أعظمك وأعظم حُرمتك! والذي نفس محمد بيده لحُرمة المؤمن أعظم عند الله حُرمة منك!"، وقال عليه الصلاة والسلام في حديث آخر صححه الألباني: "لو أن أهل السماوات وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبَّهم الله في النار". وجميعنا ندرك أننا سنقف جميعاً ذات يوم لا مفر منه على الصراط يوم القيامة، البشير والترابي ومئات الآلاف والملايين من ضحايا دارفور، أمام العدالة الألهية، وسيقال لمن دافع عن المجرمين: «ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا، فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة؟ أم من يكون عليهم وكيلا؟ ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما. ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه، وكان الله عليما حكيما. ومن يكسب خطيئة أو إثما، ثم يرمِ به بريئا، فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا».
وبالرجوع إلى مناسبة نزول هذه الآيات نجد أنها نزلت لتبرئة يهودي اتهمه المسلمون بالسرقة، وكان السارق من المسلمين، فانتصر الخالق عز وجل لقيم  الحق والعدالة، وأثبت براءة اليهودي، ليؤكد أن قيم الإسلام لا تحابي المجرمين ولو كانوا أعضاء في الحركة الإسلامية، وليعلمنا الكف عن جعل اليهود والنصارى مشجباً لتبرير جرائمنا.
ومن غرائب النظام السوداني، التي تدل على استهتاره بقدسية النفس البشرية، سكوته المريب عن المجزرة الإسرائيلية الأمريكية التي أبادت أكثر من ثمانمائة مواطن سوداني على أراضيه أثناء الحرب الأخيرة على غزة، وإفصاحه عن الجريمة على استحياء بعد شهرين فقط. هل لهذا السكوت المريب من معنى غير الاستهتار بحرمة دماء المسلمين؟! أعتقد أن الحركة الإسلامية اليوم في حاجة ماسة لتبرئة المشروع الإسلامي من جرائم القتل والتعذيب والتهجير الجماعي، في حاجة إلى تحرير الوعي الديني من الانفعالية العصبية المرتبطة بالحساسية تجاه الخارج. ما أحوجنا إلى ضمير ديني يستشعر مسؤوليته الإنسانية أمام الله والملأ الأعلى الذين توجسوا في بداية الخليقة من هذا المخلوق البشري الذي يسفك الدماء ويفسد في الأرض!
وبالعودة إلى مأساة دارفور، فما أزال أتذكر الصورة التي أنزلتها مجلة "الأسرة الإسلامية" في ملحق "مساء" العام الماضي ضمن مسابقة "آفاق صورة"، الصورة الرمزية لطفل دارفور المرمي على الأرض وقد تقوس ظهره وبرزت عظام صدره وقد هبط الغراب ليلتهم الجثة الهامدة يظنها ميتة وما هي بميتة! ويعجز لساني عن استنطاق دلالة الصورة الصارخة! ومع أنه لا يمكن الجزم بأن الصورة لطفل من أطفال دارفور المشردين في دول أفريقيا فثمة آلاف الصور الحقيقية المؤكدة لأطفال دارفور، وهي أكثر فظاعة وفوق الاحتمال، وسأكتفي بأن أضع أمام القارئ الصورة الرمزية وأضع بين يديه هذا النص الشعري الذي كتبه الشاعر محمد نعمان الحكيمي تفاعلاً مع الصورة وفاز بالمرتبة الأولى في مسابقة مجلة "الأسرة الإسلامية"؛ والقصيدة تترجم مأساة مسلمي دارفور وأزمة الوجدان العربي والإسلامي الأخلاقية الذي يتعمد تجاهل هذه المأساة التي وصل عدد ضحاياها إلى مئات الآلاف وملايين المشردين، وفيما يشبه صحوة الضمير أعاد العديد من المواقع العربية والإسلامية (أكثر من تسعين حتى كتابة هذا المقال) نشر القصيدة. وهذه أبيات مختارة من القصيدة  المهداة إلى طفل دارفور:
عَفّرْ جبينكَ في الترابِ المضرمِ
والحقْ بركبِ العالمِ المستسلمِ
عفِّر جبينك واحتكم للمنتهى
واشمخ على شهقات جرح مؤلمِ
واسكب أنينك في قوالب شاعر
يجد اشتعالك في الفرائص والدم
واكفر بكل عمامة فضفاضة
لم تكترث لنواحك المستحكم
وابْكِ الخصاصة إنما تشكو سدىً
للحاكم العربي أو للأعجمي
مادت سجايا الذل في آفاقنا
بذيول عهد مثل لونك أدهم
تركوك وحدك في البرية عارياً
تذوي، ولا من مشرب أو مطعمِ
تهوي النسور إليك قبل المنتهى
فتظل ناظرة إلى أن ترتمي
ميتاً، وتصبح جثة – يا للنُّهى!
أفضت إلى القدرِ العظيمِ الأكرم
يدنو العُقاب ودونه استحياؤه
فيراك تلهج بالدعاء الأعظمِ
يأبى –وإن أكل الرميمة لاحقاً–
أن يستحيلَّ أذىً على مستسلمِ
يأبى –وإن كانت له قدراته–
قتلَ البريء وقهرَ شخص ٍ معدم
تلكم رسالته إلى كل الورى
خُص بالإشارة كل وغد مجرم
جوعاً تموت وكم هنا من مؤمن
ترفاً يموت على تخوم الدرهم
يا ذمة الله ابرئي من قومنا
من مؤمني زمنٍ فظيعٍ مبهمِ!