حرب إبادة صهيونية على غزة

حرب إبادة صهيونية على غزة - عبدالباري طاهر

للاسبوع الثالث على التوالي تدك آلة الحرب الاسرائيلية الجهنمية غزة، إنساناً ومدناً وقرى، حجراً وبشراً.
غزة، المحاصرة لما يقرب من عامين والمحرومة من أبسط وسائل الخدمات بل من وسائل الحياة الناشفة والكفاف من الخبز والماء والدواء والكهرباء، تصمد للاسبوع الثاني في مواجهة رابع جيش في العالم وأول جيش في المنطقة كلها وثاني جيش في التقنية.
يخطئ من يعتقد أن جبروت القوة يستطيع هزيمة الحق مهما ضعف هذا الحق وصغر. فإسرائيل على سبيل المثال والتحديد أيضاً «منتصرة» أو «تنتصر» منذ 1948، لكن «انتصار» 48 (بين مزدوجين) قد أتى بما يقرب أو يزيد عن خمسة عشر انقلاباً، وهذا «الانتصار» عامل اساس في انتصار المد القومي واليساري في عالمنا العربي.
صحيح أن اسرائيل قد انتصرت على جيوش ثلاث دول من اكبر جيوش الامة العربية وفي زمن قياسي، ولكن عواقب الانتصار كان حرب الاستنزاف وحرب 73 والاهم أيضاً نشأة وظهور المقاومة الفلسطينية التي لاتزال جذوتها معتقدة في المقاومة.
و«انتصرت» إسرائيل في 5 حزيران يونيو 82 باجتياح لبنان، لكن هذا «الانتصار» الفاجع قد اتاها بحزب الله الذي يؤرقها وجوده حتى اليوم، وقد ألحق بها أقسى الضربات وأوجعها حد الهزيمة.
 اجتياح غزة وتدميرها وتقتيل أبنائها سيكون آخر «انتصارات» إسرائيل التي تخلق دائماً نقيضها المنتصر عليها.
تصفية المقاومة الاسلامية حماس هدف رئيسي لاسرائيل، ومطلب ملح للنظام العربي، وهو ما يخلق تحالفاً موضوعياً مقروء ومرئياً ومسموعاً يعبر عنه الموقف العربي الرسمي بصورة راعبة ومهينة.
ولكن نوايا إسرائيل وحليفتها امريكا أكبر من بلادة وفساد النظام العربي. فإسرائيل باجتياح القطاع تهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية بالاساس وتعقد تحالفاً مع «المعتدلين» العرب بالدم الفلسطيني لقيادة المنطقة كلها في قتال المنطقة نفسها: سُنَّة وشيعة، وللمواجهة مع إيران، ولـ«حماية» العرب والعالم من السلاح النووي الايراني مثلما حمى بوش العالم من سلاح دمار صدام الشامل.
إسرائيل لا تهتم بالرأي العام الدولي، ولا تعير القرارات الدولية أي اهتمام، وسوف تمضي في عدوانها ضد غزة وجوارها العربي، وهو ما يجعل انتصارها مستحيلاً، فالانتصار بالنسبة لها أو لأي حرب هو فرض الاستسلام وهو ما لايتحقق حتى لو سحقت «حماس»، ولصوت العالم هذه المرة مردود نوعي ومختلف.
امريكا سيدة إسرائيل واستاذتها عجزت عن الانتصار على طالبان في افغانستان، وملامح فشلها واضحة في العراق، وكلما تستطيعه الحرب الاجرامية هو مزيد من التقتيل والتدمير والدفع بالمنطقة كلها إلى جحيم صراع يبدأ و لا ينتهي.
بلادة «معتدلينا» العرب أنهم لا يفرقون بين الاعتدال والاستسلام، أو بين الاعتدال والتواطؤ. وإلا فما الذي يجبر حاكم أكبر بلد عربي على أن يقول إن الرقابة على معبر رفح لاسرائيل المحتلة، بينما رفح فلسطينيه مصرية!؟ واذا قرأنا الأمر قراءة أكثر عمقاً فغزة كلها تاريخياً مصرية، وأمن قومي مصري، وبوابة لغزو مصر، عبر التاريخ، منذ الاسرة الثالثة الفرعونية، مروراً بالمغول والتتار والصليبيين والاستعمار وصولاً إلى إسرائيل التي يعرف أي طالب في التعليم الاساسي أن الوظيفة لغرسها فصل المشرق العربي عن المغرب والشمال عن الجنوب، والتهديد المستمر للمنطقة، ونهبها. حرب إسرائيل هي آخر الوصايا العشر لبوش قبل الرحيل، ولكن «المعتدلين» العرب لم يكونوا بمستوى فطنة واخلاق السيد أردوغان الذي قرأ أن الحكم العربي البليد وعديم الضمير مازال يحلم بمحاور الشر التي رسمها بوش في بداية عهده، وقد ماتت قبل موته، وكانت من أهم أسباب هزيمة حزبه.
في انتصارات إسرائيل عبر أكثر من نصف قرن كان الانتصار قيمة بمعنى ما، وكانت الهزيمة من نصيب العرب، ولكن النتائج السياسية على الاقل لا تقبل بالأمر الواقع وتتمرد عليه، ولكن نتائج الحرب على غزة ستكون كارثية هذه المرة على الجميع، فالجيش الاسرائيلي يخوض أخس حروبه ضد مدنيين عزل، وضد مدينة محاصرة وجائعة لما يقرب من عامين، ويتواطأ معه المحيط، بينما كان دائم التباهي بأنه يواجه جيوش ثلاث دول عربية. ثم إن غزة قد قدمت نموذجاً للصمود يفضح اسطورة الجيش الذي لا يقهر، بحيث يكون الفشل معنى من معاني هذا «الانتصار». فعندما تقصف الـ«إف 16»، والـ«إف15» المساجد والمشافي والاحياء السكنية وتقتل الاطفال وتشرد المدنيين الهاربين من انتصارات إسرائيل عبر عدة عقود، فإن الانتصار يصبح فشلاً حقيقياً.
حرب اسرائيل في غزة لن تقتل «حماس»، لأن الذي يقاوم لا يموت سواء بمنطق هيرقليطس أم القرآن الكريم، وإنما ستقتل حلفاءها من الحكام العرب والفلسطينيين، لأن الذي يزحف ينداس، كحكمة هيرقليطس.
المخيف حقاً أن العدوان الاسرائيلي الواصل حد جرائم الحرب والدعم الامريكي اللامحدود، والتواطؤ العربي الرسمي، يخلق مقاومة لا تقل إرهاباً وتوحشاً من إسرائيل نفسها. فبوش بغزوه افغانستان قد اعاد الاعتبار لطالبان، وبغزوه العراق احيا الصراعات المنقرضة أو الدفينة من الطائفية والعشائرية والاثنية بمختلف اشكالها وصورها. وما تفعله إسرائيل بغزة لا يخلق إلا مزيداً من المقاومة، بل ومن التطرف والارهاب ضداً على الارهاب الاكبر: إرهاب إسرائيل وامريكا.
وإذا لم يتوقف تدمير غزة وتلجيم السباع الضواري الاسرائيلية، ويجري تغير في الموقف العربي والدولي، فإن المنتصر الحقيقي هو الإرهاب الاكثر جنوناً من وحشية فاشية هذه الحرب.
تستطيع إسرائيل كأمريكا كأي دولة أخرى إطلاق رصاصة الحرب، ولكنها لا تستطيع إيقاف تداعياتها وما ينجم عنها، ولا تحديد نهاياتها. فالدخول إلى غزة.. ما تؤشر إليه الحرب هو التصاعد والاستمرار. فإسرائيل لن تحقق النتائج التي وعدت بها الناخب الاسرائيلي المتأهب للذهاب إلى الصندوق. والادارة الامريكية الاكثر حماساً للحرب آيلة للغروب، والطفل الفلسطيني الذي يقتل كل يوم منذ 48 مازال يصرخ، و«المعتدل» العربي يجلس على الخازوق. فالوضع معقد بما يكفي لجر المنطقة إلى كوارث تأتي على ما تبقى من ثرواتها وأمنها وسلامها، ولا نتحدث عن السيادة.
إن تفوق إسرائيل في القتل منذ 48 لا يمنحها ولن يمنحها الانتصار الحقيقي، ولا يخلق شرعية معمدة بالدم الفلسطيني والعربي. وهذه الحرب الاجرامية نذير شؤم لنا ولها وللعالم كله، وبابها مفتوح على ابواب الجحيم. صواريخ القسام التي تتذرع بها إسرائيل ليست أكبر من القشة التي قصمت ظهر البعير. فإسرائيل بكل احزابها الفاعلة والمهمة تريد استعادة هيبتها التي فقدتها في لبنان، وتريد قيادة المنطقة العربية جهاراً نهاراً في مواجهة إيران وسوريا وحزب الله، وتريد ايضاً أن تجبر الادارة الامريكية الجديدة على رسم سياساتها للمنطقة وفق الواقع الجديد الذي يرسمه الجيش الاسرائيلي، وتريد أن تقول لـ«المعتدلين» من الحكام العرب إن إيران هي العدو، وأن إسرائيل هي قيادة المنطقة ولا خيار لكم. وللانتخابات الإسرائيلية نصيبها من جرائم الحرب، وإن توافقت الاحزاب عليها إلا أن النتائج والثمار الكريهة للحرب هي التي يختلف عليها.
الملح الاهم في الامر أن السيد اردوغان قد اسقط لعبة الصراع الشيعي السني الذي يريد البعض اللعب عليه، فتركيا الاسلام المستنير والعلمانية سياسياً قد فضحت هذه اللعبة بإدانة العدوان الإسرائيلي الذي لا يحتاج إلى التبرير الذي يتبرع الحكام العرب الوالغين في هذه الحرب القذرة. فتركيا الصديق لامريكا واوروبا ولاسرائيل ايضاً والعضو في الناتو رأت في العدوان الاسرائيلي إهانة لتركيا، بينما ينظر بعض حكامنا إلى هذه الحرب كـ«بوسة» على الخد.