مزيداً من الغبار، مزيداً من الهيولى

مزيداً من الغبار، مزيداً من الهيولى - مروان الغفوري

تعرف "ما بعد الحداثة" بأنها يعني الهيولي، البلازما، السيولة، السديم، اللايقين؛ شكلٌ ما من أشكال الوعي والسلوك ينتمي في تعريفه إلى ما كان يقدّمه علم الاجتماع في مقاربته للجاهلية، فهو يعتبرها، بحسب الجابري في "العقل السياسي العربي"، حالة من العدمية الحضاريّة. و"ما بعد الحداثة" ستقترب من تلك العدمية في شكلها المعرفي، في مجلاها الإنساني – السوسيولوجي، حيثُ ستغدو الفردانية المطلقة نظاماً شموليّاً جديداً، "ميكروشمولي"، يتعارض مع ما تهدف إليه مقولات ما بعد الحداثة من نسف الأنظمة الشمولية والحتميّات. أي أن مقولاتها تبطن تناقضاً ذاتيّاً مستعصياً، إذا ما استعرنا التوصيف الماركسي.
طبعاً أنا هنا لا أكتب في موضوعة "ما بعد الحداثة"، فأنا (وبسم الله على كلمة أنا) أنتمي إلى بلد يقع بين
تعرف "ما بعد الحداثة" بأنها يعني الهيولي، البلازما، السيولة، السديم، اللايقين؛ شكلٌ ما من أشكال الوعي والسلوك ينتمي في تعريفه إلى ما كان يقدّمه علم الاجتماع في مقاربته للجاهلية، فهو يعتبرها، بحسب الجابري في "العقل السياسي العربي"، حالة من العدمية الحضاريّة. و"ما بعد الحداثة" ستقترب من تلك العدمية في شكلها المعرفي، في مجلاها الإنساني – السوسيولوجي، حيثُ ستغدو الفردانية المطلقة نظاماً شموليّاً جديداً، "ميكروشمولي"، يتعارض مع ما تهدف إليه مقولات ما بعد الحداثة من نسف الأنظمة الشمولية والحتميّات. أي أن مقولاتها تبطن تناقضاً ذاتيّاً مستعصياً، إذا ما استعرنا التوصيف الماركسي.
طبعاً أنا هنا لا أكتب في موضوعة "ما بعد الحداثة"، فأنا (وبسم الله على كلمة أنا) أنتمي إلى بلد يقع بين فلقتين؛ فهو ما قبل حداثي، كما أنه ما بعد حداثي. فنحنُ نقع في ما قبل الحداثة الصناعيّة تماماً، في ذلك الزمن الذي تبيع فيه الدولة مقداراً هزيلاً من الأمبيرات الكهربائية بآلاف الريالات. حيثُ ستبدو هنا الدولة تاجر شنطة يتنقل بين الحدود ليجلب لمواطنيه الشيء السخيف على أن يدفعوا الثمن الباهض.
من جهة ثانية، فنحنُ ننتمي إلى فضاء ما بعد حداثي باحتراف شديد. ففي الحقل الثقافي والأخلاقي والاقتصادي والسياسي والعسكري والتعليمي – المعرفي وحتى التربوي، نحنُ نعيش فوضى، سديماً، بلازما، هيولي، رماداً، دخاناً! أي أننا مازلنا نسكن في بقعة من الكون لم تتشكل بعد إلى ذرات فجزيئات، فمحسوسات ومرئيّات. ويبدو أن كل الأرض والسماوات قد أطاعت الله وخرجت من عباءة الدخان، باستثناء اليمن «ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين».
بيد أن بلدي لم يتجاوز الدخان بعد. ففي حين كان يمكن اعتباره شكلاً من أشكال ما قبل الكون، على عكس اعتقاد السوسيولوجيين بأنه شكل لما قبل الدولة وحسب، هو في حين آخر يتجلى في شكل ما بعد حداثي عنيف في تقدميّته، يعيش المقولة ما بعد الحداثية على نحو منفلت.
ماذا تريد المقولة ما بعد الحداثية؟ اللاقيمة، اللايقين، التجاور المطلق، سقوط المركز؛ حسناً: هيئة لمكافحة الفساد، جماعة برلمانية (خلي بالك من حتّة "برلمانية") تسعى لإخفاء ملف فساد في شركة النفط يتجاوز ال700 مليار ريال، ناطق رسمي يدين فساد المعارضة، وزير يتهم هيئة مكافحة الفساد بالفساد ويقدم الأدلة، القيادة السياسية تقيل الوزير بسبب الأدلة الصريحة التي قدّمها، مستشار رئيس الجمهورية يتحدّث عن فقر اليمنيين المدقع ويهدد دول الخليج من عواقب هذا الفقر، ويختم حديثه عن الفقر اليمني بمديح سلطاني فاحش لمنتجع كومو الواقع في شمال ميلان، ويستشهد على حسن ذوقه الجمالي والسياحي بمديح الشاعر علي محمود طه لهذا المنتجع... هل تريد ما بعد الحداثة، وما قبل الكون، أكثر من هذا السديم، أسوأ من هذا الغبار؟! إلا إذا كان قولاً للمتنبي، فإنه قد يبدو الأسوأ إطلاقاً:
وكنتُ إذا أصباتني سهامٌ
تكسّرت النصال على النصال
ونحنُ، سكان هذا البلد الفراغ، لم تعد النصال توجعنا، فهي ستقع بالتأكيد على نصال سابقة. وعلى رأي المثل: اللي بيته من نصال يسدّه ويستريح!
مثلاً، أيضاً: يتحدث مستشار الرئيس عن هيئة الفضيلة بحسبانها خارجة عن الدستور. تبادر الهيئة بالرد عليه عبر بيان يتّهمه بالوقوف وراء الرذيلة في اليمن، وتغمزه بأنه لا يفقه شيئاً في الدستور، وتؤكد التزامها بالدستور. يخرج البركاني في مؤتمر صحفي متّهماً مطالب المعارضة بأنها مخالفة للدستور، ومن خلفه كورال الحاكم من الطفيلين والمتدرّبين الجدد. تنط المعارضة لتصف سلوكيات الحاكم واللجنة العليا للانتخابات بأنها خارجة على الدستور. يوقّع المسجونون السياسيون على تعهد بعدم مخالفة الدستور. يعيّن رئيس الجمهورية عضواً برلمانيا محافظاً لمحافظة ما، في مخالفة للدستور، للقانون، للتشريع، كما يقال. يمل رئيس الجمهورية من هذا الدستور الذي لا يعرفه أحد فيقدم مقترحات لتغيير الدستور. ترفض المعارضة هذه المقترحات بحسبانها مخالفة للدستور إحم! دستوووور. الجميع يحرس الدستور، الجميع يخرق الدستور، الجميع يجهل الدستور، الجميع يحفظ مواد الدستور، الجميع دستور، والجميع منشقّون. لكن الأكيد، أنه لا أحد (في الجميع) استشهد على صحّة ما يذهب إليه من اتّهامه للآخر بنسبة حديثه إلى مادة بعينها في الدستور. الدستور، تلك الوثيقة الخفية المفترى عليها، مسمار جحا الذي يغرسه كلٌ في ظهر رفيقه. ما هذه الفوضى!؟ ما هذا السديم!؟ يا للرذاذ! إنني الآن أدخل في "ما بعد الحداثة".
ومثلاً، أيضاً: يلقي الأمن القبض على أناس بعينهم، هم ناشطون سياسيون، عند المعارضة، هم محكومون جنائيون عند السلطات. افرجوا عنهم! لا لن نفعل، لا بد أن يأخذ القضاء دوره، فنحن دولة مؤسسات لا تتدخل في شؤون القضاء! يخرج رئيس الجمهورية ليؤكد صفة هؤلاء المعتقلين: لن نفرج عنهم، لأنهم معتقلون جنائيون ينظر في أمرهم القضاء. ويصف المطالبة بالإفراج عنهم بأنها خرق للدستور. تنام المعارضة، لتكتشف أن "التي تدهشكم للتي خرجتم تطلبون". يخرج المحبوسون الجنائيون من السجن (وليس المعتقل) كمعتقلين سياسيين، دون أن ينظر فيهم القضاء، وقبل أن تمدد دولة المؤسسات عليهم سيقانها، في عملية عفو تاريخية يصفها المحايدون بأنها مخالفة غاية في الصراحة لصريح الدستور. كما أنها انقلاب على مفردات خطاب رئاسي علني، بحسب هؤلاء البعض، ربنا العالم همّ مين! اللهم مزيداً من الدستور، مزيداً من السديم، من "ما بعد الحداثة".
thoyazanMail