عدالات غائبة وتقسيمات راسخة وانقسامات مستدامة (2)

عدالات غائبة وتقسيمات راسخة وانقسامات مستدامة (2) - سامي غالب

في التقسيم الانتخابي الحالي تُحرم العاصمة من 7 مقاعد برلمانية، والتقسيم العادل سيؤثر بشكل جوهري على توزيع المقاعد داخل كل محافظة، وليس بين المحافظات
> تتشبث السلطة بالتقسيم غير الدستوري والنظام الانتخابي لأنه يضمن لحزبها الفوز بنصف مقاعد البرلمان قبل بدء الاقتراع، ويتكفل الجيش والمال العام والإعلام الرسمي والبلطجة بتأمين الأغلبية المريحة يوم الاقتراع
> نظام الأغلبية النسبية (الدائرة الفردية) أفقد الانتخابات شرطي الحرية والتنافسية الدستوريين، وحوَّل 80 دائرة انتخابية إلى إقطاعيات خاصة بمتنفذي السلطة
لا غرابة في تشبث «الحكم المستدام» بنظام الأغلبية النسبية (الدائرة الفردية)، فهو وسيلته المثلى لتبريد السلطة التشريعية.
<<<
إلى التقسيم الانتخابي المعتَّق المخالف لنص المادة الدستورية (63)، والسجل الانتخابي المهتوك، تتدرع السلطة الخالدة(!) بالنظام الانتخابي باعتباره ثابتاً وطنياً لا يجوز المساس به. إذا أثيرت فكرة تغييره بنظام انتخابي آخر يخدم التنمية السياسية في اليمن، خرج أحد أرباب السلطة (أو أحد خُدامها) في الناس متدرعاً بالنص الدستوري. لكن النص/ الدرع لم يسلم من العبث الدستوري، فقد امتدت «اليد العازفة» إليه مؤخراً، مسقطةٍ في مشروع التعديلات الدستورية، نسبة ال5 ٪_ التي يشترطها النص كحد أقصى مسموح به عند إجراء أي تقسيم للجمهورية إلى دوائر انتخابية متساوية، محيلة تحديد النسبة البديلة إلى القانون الانتخابي.
<<<
يسوِّغ مسؤولون في السلطة خرق المادة 63 من الدستور، بحرصهم على تفادي أية مضاعفات مناطقية أو تشطيرية جراء تصميم تقسيم انتخابي جديد يحقق عدالة انتخابية، وبالتالي فرصاً متكافئة، لليمنيين.
والشاهد أن الأداة الانتخابية للسلطة (المؤتمر الشعبي) التي تستحوذ على أربعة أخماس مقاعد البرلمان الحالي، هي وحدها المتضررة من إعمال الدستور. وليس من الإنصاف مطالبة المعارضة بتجاهل الخرق الدستوري حفاظاً على الوحدة الوطنية والسلم الاجتماعي في صفوف حزب الأغلبية الكاسحة للسلطة.
<<<
يعود التقسيم الانتخابي الراهن إلى أواخر عام 1992. في أغسطس من تلك السنة  تشكلت أول لجنة عليا للانتخابات بصيغة توافقية كفلت تمثيلاً متوازناً للقوى السياسية. وتولت اللجنة التأسيس للانتخابات البرلمانية الأولى بدءاً من التقسيم والسجل الانتخابيين، وصولاً إلى الاقتراع وإعلان النتائج. وقد أمكن لها إنجاز مهامها التأسيسية في زمن قياسي، بفضل توازن سياسي (وانتخابي) وفَّر إرادة سياسية جامعة للجنة الرفيعة التي عملت بروحية هواة.
<<<
بعد 15 سنة صار لدى اللجنة العليا للانتخابات فريق احترافي يتوافر على الجاهزية الفنية الكفيلة بإنجاز تقسيم انتخابي جديد يصحِّح أخطاء التقسيم الحالي الذي صممته اللجنة التأسيسية اعتماداً على تعدادي الشمال (1986) والجنوب (1988)، في زمن قياسي وفي غياب التجهيزات الفنية اللازمة.
تقاعست اللجنة الأخيرة منذ 2005 عن إنجاز مهمتها، ومن غير المحتمل أن تنجز اللجنة المقبلة (التي يجري حالياً التفاوض على تشكيلتها بين السلطة والمعارضة) المهمة الدستورية قبل الانتخابات البرلمانية المقرر إجراؤها في ابريل 2009، لأن السلطة أدرجت التقسيم الانتخابي في خانة الثوابت الوطنية.
<<<
في 1992 أنجزت اللجنة الانتخابية برئاسة القاضي عبدالكريم العرشي التقسيم في ظرف شهرين. وقياساً إلى الإمكانات الشحيحة للجنة الأولى، فإن في وسع اللجنة الجديدة التي يفترض أن تتشكل الآن لمقتضيات دستورية، أن تنجز تقسيماً عادلاً في أقل من شهرين. سيكون في متناولها نتائج التعداد السكاني الأخير (2004)، وجاهزية فنية عالية معززة بنظام GlS (نظام المعلومات الجغرافية)، ومسنودة بخبرات قيد العرض، من منظمات دولية معنية بالانتخابات اليمنية، أبرزها منظمة آيفس.
<<<
فنياً، فإن تحقيق عدالة انتخابية عبر تقسيم جديد للدوائر، في متناول اليد. وسياسياً تبدو العدالة مطلباً عصي المنال لأن طرفاً سياسياً واحداً يحتكر، منذ 7 يوليو 1994، القوة السياسية داخل «الديمقراطية الناشئة»، مراكماً أرباحه الانتخابية، دورة تلو أخرى، على حساب شركاء طيبين يؤمنون بأن «القناعة كنزُ لا يفنى».
<<<
على أن كنز المعارضة لا يشبع الناخبين في اليمن. والتقسيم الانتخابي الجديد (علاوة على كونه استحقاقاً دستورياً) متاح فنياً، ومأمون العواقب، سياسياً واجتماعياً، بصرف النظر عن الهواجس الوطنية والوحدوية لرواد المسيرة الديمقراطية في السلطة.
طبق النتائج التفصيلية للتعداد السكاني الأخير، فإن التغير في الخارطة الانتخابية سيكون طفيفاً على مستوى حصص المحافظات، أو حتى فيما يخص حصتي الشمال والجنوب. للتمثيل، فإن نصيب محافظات مثل تعز وحضرموت وإب وعمران سيقل بحدود دائرتين أو ثلاث، لصالح محافظات مأرب وشبوة وحجة والعاصمة.
سكان العاصمة هم المتضرر الأكبر من استمرار التقسيم الانتخابي الحالي، إذ أن لكل 90 ألفاً منهم مقعداً واحداً في البرلمان، مقابل 60 ألفاً في تعز أو الحديدة أو حضرموت. والمحقق أن العاصمة (19 معقداً) تستحق 7 مقاعد إضافية.
في الدائرة 15، حيث أقيم، احتاج مرشح اللقاء المشترك (إصلاح) إلى 22361 صوتاً من أصل 40 ألفاً أدلوا بأصواتهم، للفوز بالمقعد، في حين كفل 1200 صوت لمرشح في محافظة أخرى حجز مقعده إلى جوار ممثل الدائرة 15.
سكان الدائرة 15 منقوصو المواطنة حيال جيرانهم في دوائر أخرى في العاصمة. فأصوات المرشح الخاسر في هذه الدائرة (مؤتمر شعبي) تعادل ضعفي أصوات المرشح المؤتمري الفائز في الدائرة رقم 2، والذي تبوأ مقعده البرلماني بفضل 7632 صوتاً فقط.
والحاصل أن نقص العدالة داخل كل محافظة على حدة أكبر بكثير من ذاك المرصود فيما بين المحافظات، ما يدحض دعوى إثارة المناطقية بإعداد تقسيم جديد.
في إب على سبيل المثال، تم إقصاء مرشح المشترك يحيى منصور أبو أصبع، في انتخابات 2003 بفعل بضع مئات من الأصوات جرى التلاعب بها بقرار مركزي من العاصمة في واقعة مشهودة لم تفصل فيها المحكمة العليا منذ 5 سنوات بالتمام. خسر البرلمان واحداً من أكفأ أعضائه، رغم حصوله على أصوات تعادل 3 أضعاف الأصوات التي حصل عليها مرشح آخر للمشترك في دائرة مجاورة.
<<<
بالمثالين السابقين يمكن التقاط الأثر المباشر للتقسيم الجائر على المعادلة السياسية داخل البرلمان. في العاصمة كما في بقية الحواضر تتمتع المعارضة بقدرة تنافسية أعلى. وبفعل التقسيم الانتخابي، ومحددات سلبية أخرى مثل اعتبار مكان العمل موطناً انتخابياً، حُرمت المعارضة من تحقيق «أغلبية مريحة» داخل العاصمة.
<<<
تنصب عوائد التقسيم الحالي في خزينة السلطة وحدها. وإذا صدرت دعوة، من جهة محلية أو منظمة داعمة، لإعادة النظر في التقسيم الانتخابي سارع خبراء المؤتمر الشعبي إلى عقد جلسة تحضير «أرواح المناطقية» لترويع أصحاب الدعوة.
<<<
تضافر التقسيم والنظام والسجل من أجل تأمين الأغلبية المريحة (وما بعد المريحة!) للسلطة في البرلمان.
التفاتة عابرة إلى قائمة «نواب الشعب» الحاليين، تظهر أن نحو 80 نائباً منهم يستحوذون على مقاعدهم بالتزكية تقريباً. دوائر هؤلاء الـ«سوبر برلمانيون» هي في أغلبها اقطاعيات خاصة محظور ارتيادها على المعارضين، ما يعني انتفاء شرطي الحرية والتنافسية الدستوريين. بعض «السوبر برلمانيون» يضطر إلى دفع أحد مرافقيه أو أقاربه أو مستخدميه للترشيح لغرض الوفاء بشرط التنافسية الدستوري. استدراكاً فإن بعض «النواب السوبر» يتمتع، لأسباب محض اجتماعية لاصلة لها بالأداء البرلماني، بشعبية واسعة.
<<<
بفعل الثوابت الوطنية (الانتخابية) للسلطة اندحرت الأحزاب السياسية من محافظات بأكملها، ليس فقط من قوائم الفائزين بمقاعد هذه المحافظات، وإنما أيضاً من قوائم المترشحين. الخارطة الانتخابية للمعارضة ملأى بالفراغات، خصوصاً في المحافظات الشمالية. واقع الأمر أن المعارضة (بمن فيها الاصلاح) كفت عن تسجيل حضور يستحق الرصد في 9 محافظات شمالية على الأقل، تمثل نحو ثلثي مقاعد البرلمان.
لا مؤشرات على حياة معارضة في المجرة اليمنية الشمالية التي تضم: حجة (20 دائرة)، الحديدة (34)، المحويت (8)، البيضاء (10)، وأغلب دوائر ذمار (21)، وصنعاء (20)، وإب (36)، وصعدة (9)، وعمران (15).
تضمن الثوابت الانتخابية الوطنية -والوحدوية إنْ شئت!- أغلبية بسيطة للسلطة قبل فتح صناديق الاقتراع صبيحة كل 27 إبريل. وتتكفل الثوابت الأخرى (جيش، خزينة، إعلام، بلطجة) بانتزاع ثلثي المقاعد المتبقية في عملية تنافسية دموية تجري داخل دوائر مسيجة بالحديد والنار، لكي تمدِّد السلطة داخل قاعة البرلمان ولا تبالي.
Hide Mail
> يتبع