عندما تحتفي الذكرى بآخرها

عندما تحتفي الذكرى بآخرها - عبدالقوي غالب

بمناسبة ذكرى الاستقلال
كي تتمكن هذه المقالة من إبداء تعليقها، علينا، أولاً، جعل أمرها معلقاً، غير محسوم، ولكن نتتبع سير الأمر في الحاضر.
وفي مسعانا هذا، نبدأ برمي ما تتركه وتولده «الذكرى» أمامنا للتَّعيين، لتُعين حركة سير أقدامنا. فعندما نضع الأشياء أمامنا -هذا ما يفعله التاريخ- تبدو لنا شيئاً ولا شيئاً معاً.
فالذكرى وهي أمامنا، تبدو تذكاراً، كمنديل «كافكا» في مستعمرة العقوبات، أو قولاً مأثوراً تقله أمي «ولد لذكراك».
«منديل كافكا» يبدو «لا شيء»: لا أهمية له ولا قيمة، يمكن أن يُرمى في كيس قمامة، أو يسقط في «ترعة»، فيصبح من مكونات طين رسوبية. إنه تذكار صامت، دون معنى، لكنه، رغم ذلك، فيه شيئ ما، ربما نجده في «مأثور أمي» الذي ليس «أنا»: علّه شبهي.
صحيح، عندما تطل علينا الذكرى ترمي بنا (هناك)، لكنها لا تضعنا في ال(هناك) كما يضعنا «التذكر». الذكري ترمي بنا كمتجولين -لا كميقيمين- حملوا أثناء مغادرتهم تذكاراً، ابتاعوه، وهم يهمون ركوب القطار، وبعد وصولهم، سردوا رحلتهم وعرضوا تذكارها، الذي تنصبه «الجموع»، شاهداً لنضالها، في ساحة عامة، كنصب جندي مجهول. هذا الأخير (نصب تذكار لمجهول) هو تحديداً ما يقوم به التذكر في مجال الذكرى، التي تطفو على الحاضر، فالتذكر هنا، لايبدي سوى إختلافاً: تباينات الحاضر والماضي التي ترجئها الذكرى إلى المستقبل.
بتوضيح آخر، التذكر في مجال الذكرى يكون بمثابة فيض للذاكرة، حيث مصدر هذا الفيض هو آخر. فالآخر، يقدم للحاضر، من الماضي أو من المستقبل. من هنا، إحتفالنا بذكرى الاستقلال هو إحتفاء بآخر ساكن. ومن هنا أيضاً، تمنح الذكرى، منحى لاختلاف وصيرورة أخرى.
 في هذا السياق تغدو «قضية الجنوب» -إن كانت كذلك طبعاً- فتحاً لقضية، دون قضية، لا تطلب عدلاً وإنما حقاً دون «حقانية» حق«نا»، حيث الحقانية وهي السائد في الحاضر، تُماثل ما يقوم به (التذكر)، كما تحدثت في السطور أعلاه، في التموضع في ال(هناك). هذا التموضع هو مشنقة الحاضر والحق معاً.
عيش حياة الحاضر على تذكر الماضي وأحلامه، هو سمة حاضرنا العربي، حيث تذكر الماضي، ليس مقصوراً، كما هو شائع، على ساسة ومثقفي اليمين وإنما أيضاً على ساسة ومثقفي اليسار، فهؤلاء أكثر من سابقيهم، في عيش الحاضر بأحلام الماضي.
بتوضيح أكثر، أحلام الماضي، قوت التذكر اليومي للحاضر، لا تعطي أي فارق لإختلاف الحاضر عن الماضي، و في هذا السياق لا فارق بين «حلم الوحدة» و«حلم الإنفصال»، فاليسار واليمين سواءٍ في البحث عن خلاص لذلك نلاحظ شجو التذكر على أشده اليوم مما أدى الى إصابة «ليبراليين» من يسار ويمين بعدواه (من تذكر حياة قبل 1952 في مصر إلى تذكر حياة قبل 1967م وبعدها في اليمن) جاعلين من الديمقراطية هي الحل على غرار الاسلام هو الحل، فالديمقراطية هنا يتم التعامل معها بوصفها خلاصاً لا خياراً لتمكين الممكن.
لئن بدا، التذكر جامع الجميع والجماعات فإن أحلامه قاسمها، فالأحلام ليست إلا شبح الماضي بامتياز.
رداءة الحاضر المعاش -حسب تعبير بن عبدالعالي-، أنه لا يتعامل مع الماضي بوصفه مصاحباً للحاضر وإنما بوصفه متعالياً عليه. وهنا لا يكون الحاضر في حالة غياب بل في حالة المغيب.
abdulkawi_sMail