غارقون في المركزية

غارقون في المركزية - إلهام الوجيه

توجهت أنا وقريبتي إلى كلية الآداب -جامعة صنعاء، بهدف تحويلها من قسم إلى آخر في الكلية نفسها، وتطلب ذلك العديد من الإجراءات كان أهمها وأولها وآخرها ومحورها توقيعا من نائب العميد بالموافقة على النقل. وعندما استطعنا مقابلته طمأننا بأن المسألة سهلة ولا تستدعي قلق قريبتي. ذلك ما جعلني أتساءل: لماذا لم يتم كل ذلك دون توقيع النائب، طالما والتوقيع ليس استثناء ولا يأخذ أبعادا غير مرئية تجعل النائب فقط هو الوحيد والقادر على أن يبت بالقرار فيه؟!
لأننا وببساطة نغرق في المركزية، نستمتع بمركز يتحكم بجميع الخيوط، وبنا، ونرى وجوده دعامة لتوازننا وشماعة لأخطائنا، ومجرد غيابه قد يقلب الشأن العام رأسا على عقب، ويجعل الأمور سائبة... نحب التحكم بنا ولا نشعر بأننا رعايا إلا عندما نجد الراعي ممسكا عصاه يحركنا ذات اليمين وذات الشمال، يوفر لنا الماء والطعام، وحتى إن لم يوفرهما فلنا عند ذاك راع نستطيع أن ندعو عليه. والمضحك أن ذلك المتحكم القادر لم يعد قادرا، وذلك العدد المحدود الذي يستطيع بشر أن يتابعه ويراقبه بات رقما من ملايين يصعب على طاقة بشرية واحدة العمل لأجلهم ومراقبتهم ودفع الظلم عنهم. قد يصفني البعض بالتشاؤمية أو اليائسة في ما يخص مركزية الحكم في بلادنا، ولكنني لا أرى أبعد من الحاكم، كمثل الجميع، ولا أقرب إليَّ من أنفاسي سواه. هو القائد العام، والقاضي العام، والاقتصادي الأول، ووزير التعليم، ووزير الصحة والنفط، وشيخ القبيلة، ورئيس البلاد، و... و... و... و... كل ذلك يتحمل عبئه شخص واحد ومجموعة معدودة بات من الصعب عليهم في زمن العولمة والمساحات الشاسعة والتعداد السكاني المتزايد أن يديروا كل شيء دون المزيد من الأخطاء والإهمال وعدم الدراية.
باتت الإدارة المحلية حلا جذريا لكل تلك المشاكل والأزمات التي ننزلق إليها بكل يسر، وباتت طوق نجاة لمركزية مرضية واحتقان وفقر وجهل ومرض. ذلك أن تفعيل الأطراف وتنشيط البلاد أجمعها سيجعل الحلول متوفرة والقدرات مرئية والفساد والمفسدين بالمقدور السيطرة عليهم في ظل مساحات أقل واختيارات وانتخابات نزيهة وشعور يكتسح الجميع بالمسؤولية وأن لا مخرج لنا إلا بتفعيل دور الإدارة المحلية بمستوياتها الثلاثة: مركز، محافظة، ومديرية.
أعلم أن السلطة المحلية مطلب حضاري، بل ربما قد يكون آخر المطالب الحضارية بعد تحقيق مطالب أخرى كترسيخ مفاهيم الديمقراطية قولا وعملا ومكافحة الجهل بها وبقيمتها وإن كنا لم نحقق أيا منها تحقيقا يتجاوز حتى نصف الاحتمالات بأننا قد صرنا جاهزين لإدارات محلية تدير البلاد وتشرف على خيراتها وأبنائها وتعاقب وتحاسب دون أن ترجع أولا وأخيرا إلى نائب العميد، عفوا! أقصد إلى حاكم البلاد. إلا أنني أراها في مثل حالتنا مطلبا أولا وعاجلا لأجل البداية التي قد نختلف معها عن الآخرين ولكنها حتما بنجاحها ستميزنا على الجميع.
أتخيل دائما إدارة محلية أقرب إلى احتياجات الناس وإلى أماكن القصور من خلال درايتها بطرق التنمية المتاحة لطبيعة جغرافيتها وتركيبة سكانها وظروفهم الاجتماعية والسياسية تعالجها بإمكانات خاصة وبمسؤولية جماعية وقرار خاص بها لا يتعارض إطلاقا مع قضاء البلد ودستوره والحقوق السياسية الممنوحة للجميع، وهي بذلك التصرف الإداري ستكون قادرة على تنمية مناطقها، كما أنها ستنفق ماليا على احتياجاتها من مواردها ودعم المركز إن لزم الأمر ولكن دون الرجوع إلى الوزارات؛ ذلك لأنها عند ذلك الوقت ستكون هي الأعلم والأدرى بأوضاعها التنموية والإدارية.
تلك هي تخيلاتي التي تسارع ارتفاعها حتى رأيت المحافظات تتنافس بجد لأجل جعل كل واحدة منها زهرة للمدائن ووطنا صغيرا ينعم أبناؤه بالسعادة ولا يولون وجههم دوما شطر العاصمة وشطر حاكمنا العظيم، وأينما كان مقر إقامته كان الحج باتجاهه لأجل إيجاد حلول للناس وتدبير شؤون حياتهم! حتى باتت صنعاء أشبه بقنبلة موقوتة مليئة بالوزارات والمحاكم والجيش والأمن والمشايخ والقادمين للبحث عن عمل والباحثين عن إتمام معاملاتهم وتفاصيلهم الصغيرة.
إننا غارقون في المركزية، بل نحن ميتون بعد ذلك الغرق؛ ذلك أننا نحيا عكس ما أتخيله وأحلم به, فالمركز -أطال الله عمره- ما زال حتى اللحظة مسيطرا على السياسة والقضاء والإدارة وما يخص التشريعات والقوانين، ولكنه يفقد السيطرة فيما يخص الأسعار وسوء التعليم والصحة والطرق والفساد والتدهور الذي يتسارع إيقاعه كطبول الحرب التي تنبئ بالخراب قبل أن تنبئ بالنصر. وبوجود هذه المركزية وفي ظلها لا شيء سيولد من ترهات تلك التنمية الشاملة التي لا تشمل سوى جيوب البعض لا أكثر.
الإدارة المحلية هي تحدي الحكومة وتحدي المعارضة للمرحلة القادمة. بل هي العلامة الفارقة التي ستوضح للجميع مدى جدية هؤلاء ومدى عمق نظرتهم وقربها من الناس ومن إيجاد الحلول الحقيقية القادرة على إخراج الجميع من عنق الزجاجة الخانقة.
إن الإصرار على أن المركز هو كل شيء يطرح تساؤلا بريئا، وهو: ما الفائدة من مسؤولين هنا وهناك نثقل بهم ميزانية الدولة ولا نستفيد منهم شيئا؟
إذا لم تستطع المحافظات إدارة نفسها حتى اليوم فصدقوني لا خير يرجى من مجتمع مدني يتزايد شكليا ولا يفعل شيئا في حقيقة الأمر سوى تزويق نظام مهترىء وسلطة متحكمة قابلة للانهيار في كل لحظة. كما لا جدوى من معارضة مهووسة بإزالة الحاكم قبل أن تبدأ بإزالة العقلية المركزية من تنظيمات أحزابها. ولا جدوى أخيرا من حاكم وحكومة تظن أنها تدير البلاد بحنكة وما هي سوى سائق لا يجيد القيادة يقود الجميع إلى هاوية محتومة.
لا جدوى من الجميع إن لم يسع الجميع إلى إدارات محلية منتخبة تمتلك من خلال انتخابها شرعية التغيير والبناء وبت القرارات بعيدا عن الجميع إلا مصالح من تديرهم ومن تنظم لهم حياتهم.
للعلم:
الإدارة المحلية غير الحكم المحلي، وليست بذرة للانفصال والتشظي والتمرد على المركز. ولكي يطمئن الجميع فإننا نريد قرارات إدارية مناطقية، أما القرارات السياسية سنتركها للمركز حتى لا يزايد المحبطون على أن الأولى لا بد وأن تقود إلى الثانية.