جولة القادسية.. كمخيم للإجازة الصيفية

جولة القادسية.. كمخيم للإجازة الصيفية - عبدالقدوس طه

ودع الطفل «بندر» أمه وهي على وشك أن تضع حملها التاسع، قاصداً جولة «القادسية» للعمل إلى جوار أخويه شمسان ومحمد.
لقد اغتنم الاخوة فرصة الاجازة الصيفية ليسكنوا مع أبيهم العامل في أحد مطاعم شارع «الرقاص»، حيث يسكن في غرفة في الشارع ذاته.لكن الأب الذي فارق «وصاب» منذ عدة اشهر، هزه الشوق، وعاد إلى القرية صباح أمس الأول لاستقبال مولوده الجديد. بندر وأخواه بقيا في جولة «القادسية»، شمسان بالميزان على الرصيف، وبندر ومحمد يطوفان ببضاعتيهما (الأدعية) على السيارات. لكن تنقلات بندر السريعة في الجولة تشعرك بالخوف؛ فالطفل يعرض نفسه للخطر وقد يصيبه حادث مروري يقضي على حياته، إنه يمضي قرابة 12 ساعة وسط زحمة جولة «القادسية»، يعرض كتيباته على السائقين المنتظرين الإشارة الخضراء. يعتمد الطفل في تسويق بضاعته على إيقاع إشارات المرور مثله مثل سائقي السيارات فعندما تكون الإشارة حمراء يشرع في عرض بضاعته على السيارات الواقفة، وحال إطلاق الضوء الأخضر يكون قد تحول نحو الاتجاه الآخر حيث الإشارة الحمراء. كما لو أنه يلاحق الضوء الأحمر، متنقلاً بين الاتجاهات الأربعة للجولة. أمنيته أن تظل الإشارة حمراء طوال اليوم.
بندر إبن الثالثة عشرة شارف شهره الأول في جولة «القادسية» على الانتهاء. لم يستطع الصبر لأيام قليلة حتى يرى شقيقه الجديد، فقد قرر الرحيل من «وصاب السافل» الى العاصمة صنعاء بحثاً عن عمل.
هو يعمل في جولة «القادسية». حرصه الشديد على ترويج ما بيده من كتيبات يدفعه للمخاطرة بحياته إذ يقفز بخفة بين السيارات المزدحمة، يحاول أن لا يفوته أي زبون.
بين يديه عنوان واحد من كتيبات الأدعية: «الدعاء المستجاب»، يبيعه ب50 ريالاً، إذ يشتريه من مكتبة «خالد بن الوليد» بمحاذاة الجولة ب20 ريالاً، ويربح رغم المخاطر التي تواجهه 800 ريال طوال الساعات التي يقضيها في الجولة. البعض من زبائنه يعطيه فلوساً دون أن يشتري كتيب الدعاء. «بعض الناس رحيمين يدوا لي 50 أو100 وما يشتوش الكتاب».
علي العميسي (عامل بمكتبة أمام الجولة): «كثروا الأطفال في العطلة وبعضهم يشحت ويطلب»؛ إذ هو يرفض تسول الأطفال، يعطيهم كتيبات صغيرة ديناً، ناصحاً الكثير منهم بالعمل، وقد لاقت نصيحته استجابة من بعضهم. فعندما يبيعها الطفل يرجع ليقضي الدين ويشتري كمية أخرى ليكون «ضمار» (رأسمال).
تتزايد أعداد الأطفال في الشوارع من يوم لآخر.
حياتهم في الجولة معرضة للأذى والإهانة. وكثيراً ما تعرض بندر للإهانة، ومرات للضرب من قبل شباب، واحياناً عرضة للاستغلال الجنسي.
ذات يوم أقدم شاب يصفه بندر بـ«الشاذ» عرض عليه مبلغاً من المال ليستدرجه إلى منطقة خالية، «قال لي: تشتي ادي لك زلط، أدي لك كم ما طلبت إعتبرني أخوك إلحقني إلى هذه الحارة»؛ لكنه رفض، شخص ببصر قائلاً: «اللي يشتي يدي لي زلط، يدي وانا هنا، أنا ما اروحش مع أحد»... محاولة الشباب لاقت الرفض الصارم، وفي استحياء: «قال لي: أدي لك 500 ريال وجي معي»، هناك، إلى منطقة خالية. «ما احد يشوف (يواصل بندر) أنا خفت ورحت أكلم الأوبل (النجدة) الرجال شاف العسكر هرب»، كثير من اطفال الجولات يتعرضون للاستغلال والابتزاز بطرق ملتوية وإغراء بالفلوس».
بندر يخرج من 9 صباحاً ولا يعود إلا 9 مساء إلى غرفة أبيه مع أخويه يقضي نصف يومه في الجولة يتغدى هناك ويقضي حاجته في المسجد.
لقد بدت عليه آثار التعب والإرهاق، وبهت لون وجهه؛ إذ نظرت إلى عينيه، تغشاهما صفرة العناء والجهد الذي يبذله واقفاً طوال نهاره. صحته تتدهور. بثيابه التي يرتديها: البنطلون والقميص والسترة (كوت) تظنه طالباً، كما قال، في الصف السادس على خلاف القرويين من غير الطلاب الذين تراهم بالثوب والعسيب وربطة الرأس (العمامة) لم تتغير منذ قدومه من القرية لا يلقى احد يرعاه. وجهه الشاحب من اثر الشمس، ينبئك بالمعاناة والمتاعب التي يلاقيها كل يوم.
هو يحكي بصوت طفولي بريء قساوة الحياة وشقاء الرزق.
يصارع ليوفر لأسرته لقمة العيش، وما أمكن من مصاريف الدراسة.