رسالة المتقاعدين من يقرأها؟!

رسالة المتقاعدين من يقرأها؟! - عبدالعزيز البغدادي

لفت انتباهي تصريح ناصر النوبة رئيس مجلس التنسيق الأعلى لجمعيات المتقاعدين في المحافظات الجنوبية والشرقية لصحيفة («النداء» العدد 111) من حيث تأكيده الحرص على النضال السلمي للمتقاعدين في سبيل الحصول على مطالبهم الدستورية والقانونية.
هذا التأكيد والحرص على النضال السلمي من المنتمين للمؤسسة العسكرية تُثير لدى المراقب والمهتم أكثر من تساؤل!
هل هذا الوعي السياسي والحس الوطني هو أحد أسباب استبعاد بعض هؤلاء وإحالتهم إلى التقاعد قبل الأوان، بل وسلبهم حقوقهم التقاعدية؟! فمن المعروف أن النظم الاستبدادية في بلدان العالم الثالث قد حرصت منذ الجلاء المعلن للاستعمار القديم على أن تبقى المؤسسة العسكرية والأمنية تحت قبضة الحاكم المستبد في هرم السلطة، ولكي تبقى كذلك هناك فلسفة ممارسة، بأن هاتين المؤسستين لا بد أن تنتقى عناصرها الفاعلة من العناصر الأقل ثقافة لوجود عداء واضح بين الحكام المستبدين وبين الوعي والثقافة لاعتقاد الحكام بأن الثقافة والطاعة العمياء لا يلتقيان ولكي تبقى الطاعة العمياء، في كل المعسكرات والوحدات العسكرية والأمنية لا بد وفقاً لهذه النظرية أن تبقى الثقافة الجادة و المعرفة الحقيقية بعيدة عن اسوارها.
وقد ثبت بؤس هذه النظرية وغباء أصحابها لعدة أسباب، أذكر منها سببين رئيسيين:
أولهما: إن بقاء هذه الفئة من المجتمع خارج دائرة الوعي والثقافة الجادة والحقيقية لا يمنع من تسرب ثقافة العنف إليها بل بالفعل يجعلها مهيأة لثقافة العنف ولهذا بأنها ستكون أقل تحصيناً ضد ثقافة الظلال وقابلة لفكرة استخدام القوة في سبيل التغيير كون التغيير سنة من سنن الحياة، التغيير السلمي المدني ليست متاحة أمامها، أما ثقافة العنف فإنها ثقافة غريزية ولا تحتاج إلى عناء في الوصول إليها لأنها تعتمد على ردود الأفعال. وطالما وجد الفساد والتذمر فإن رد الفعل الطبيعي هو التفكير في ضرورة التخلص منهما ومن لا يمتلك أدوات الثقافة السلمية أو عجز عنه فإن العنف هو القريب المتاح!
أما ثاني السببين الرئيسيين اللذين يؤكدان بؤس وغباء أصحاب نظرية إبقاء المؤسسة العسكرية والأمنية خارج دائرة التثقيف والتوعية الحقيقية، فهو أن عالم اليوم لم يعد قابلاً بأي صورة من الصور أن تعزل مجاميع من البشر أو مناطق جغرافية أو إدارية عن تدفق المعلومات. صحيح أن هناك وسائل حديثة في كيفية صنع الرأي العام والتأثير عليه وتوجيهه، ولكن ذلك يختلف عن حجب المعلومات، والتأثير في الوعي. أي يمكنك أن تؤثر في الوعي إذا امتلكت القدرة على التأثير، ولكن لا يمكنك أن تمنع التأثير مجرد المنع بصنع الأسوار المانعة للنور والمعرفة.
كنت قد علمت بأن هناك توجيهات رئاسية قد صدرت بإنصاف المتقاعدين. وعلمت أيضاً أن هناك كالعادة التفافاً على هذه التوجيهات ربما من بعض الحُجُّاب الذين أشار إليهم الأستاذ عبدالجبار سعد في أعداد سابقة بصحيفة «الوسط».
وهنا لا بد من التأكيد أن القضية لا يمكن أن تنتهي بمجرد اصدار التوجيهات والسلام.
هناك عصابات تسيطر، مؤسسات الدولة، ومنها وأخطرها في المؤسستين العسكرية والأمنية وهما مؤسستان وطنيتان شديدتي الصلة بتحقيق أهداف الثورة بل يخصهما هدف من أهدافها، ومن المعيب جداً بل والخطير أن تبقى حقوق هاتين المؤسستين وكل مؤسسات الدولة خاضعة للأمزجة والمعايير الخاطئة القبلية والعشائرية والعائلية والحزبية والطائفية والمناطقية؛ لأن هذا السلوك بلا شك سوف يشكل لغماً يهدد بتفجير الوطن الذي ما يزال بناؤه كما يبدو حلماً أبعد ما يكون عن تحقيق أهداف الثورة. إن هؤلاء المتقاعدين الذين اختاروا الأسلوب السلمي في المطالبة بحقوقهم، وهم من المنتسبين للمؤسسة العسكرية، أرى أنهم -يجب أنيكرموا على هذا السلوك لا أن يشكك في وطنيتهم، وأن يعاد النظر في استبعاد من لا يزال منهم قادراً على العطاء. ويجب كذلك أن يوضع حد لاستخدام التقاعد وسيلة لتصفية الحسابات أو لاستبعاد من لا يعجبنا انتماؤه أو آراؤه أو منطقته أو قبيلته، لأن وطن الوحدة يفترض أن يكون أوسع من رؤانا الضيقة وأمزجتنا المريضة، خاصة وأن تقدم العمر ومن ثم الموت غير قابل للاستثناءات مهما حاول البعض التعامي عن هذه الحقيقة!
ومن خلال الاستيعاب الواعي لكل ذوي الآراء المختلفة واستيعاب المخالف في الرأي أياً كان وجه الخلاف، قبل الرأي الموافق, وتطبيق مبدأ سيادة القانون على الجميع, من خلال هذا وحده يمكننا فقط أن نبني دولة الوحدة ونحافظ عليها!