كنت مخدوعاً عظيماً

كنت مخدوعاً عظيماً - جمال جبران

«سأكون ميتاً عظيماً». قالها شاعر غربي قبيل انتحاره. قالها وهو على يقين تام من أنه سيكون «ميتاً عظيماً». هو يعلم أنه ماض ولا بد في هذا الطريق.
وبلا ذرة شك واحدة. في طرف آخر، وفي عبارة أخرى. «سأكون مخدوعاً عظيماً». لايقولها أحد. إذ لا يعلم ولا يدري.لا يعرف المرء شيئاً عن ما يحاك وراء ظهره. لا يرى قنبلة موقوته وضعت له بعناية في طريق ما يسير عليه بانتظام. «سأكون مخدوعاً عظيماً» لا تصح هذي العبارة ولا تستقيم على لسان أحدهم. هو يسير مغمض القلب ويأكل الظلام. لا يدري شيئاً عن حفرة بعمق عشرة أمتار تحت قدميه و لا يراها. هو مشغول بالحب. يعتقد أن ظهره، من هذي الناحية، محمي بشكل جيد.
في فليم «ملك وكتابة» انتاج (2006) كان «محمود حميدة» مطمئناً في حياته وحبه. يروح إلى شغله تاركاً زوجته «عايدة رياض» واثقاً من عيشها في الحب/ حبه ولا شك ملقى على هذي الناحية، وكان عيشهما طويلاً هادئاً، ومضبوطاً على تكة عقارب الساعة.
لكن ما الذي يحدث لو اضطربت العقارب عاملة على إصابتها في تقديم أو تأخير؟! ما الذي يحدث لو خرج «محمود حميدة» إلى شغله وهو الكائن المضبوط، لو خرج واصلاً مكان عمله ليجد ان لخبطة ما حدثت في مواعيد محاضراته ولم يتم إبلاغه بها. هو يذهب إلى محاضرته من القاهرة، حيث يسكن، إلى الاسكندرية وفي يوم وحيد محدد. سيفعل احتجاجاً بسيطاً على عدم إبلاغه وسيعود إلى بيته. ستكون مبكرة عن ميعادها الاعتيادي بمقدار زمني مواز لزمن اشتغاله في المحاضرة المقررة عليه، بمعنى: هو كان يعود في الرابعة ظهراً بعد ست ساعات يقضيها ما بين سفره واشتغاله وبالغاء محاضراته يكون عليه لزوماً عودته إلى بيته قبل خمس ساعات من ميعاده الاعتيادي. لنفترض أنه قضى ساعة واحدة في احتجاجه على تلك اللخبطة التي حدثت ولا تعلم زوجته بها. وهي لو تعلم بهذا مسبقاً كان عليها لزوماً تغيير ما تفعله عادة في ذلك اليوم. وتحديداً في ست ساعات هي مدة غياب زوجها. لو كانت تعلم لكانت قامت بتوفير الكثير على زوجها. مثلاً: كانت لن تجبره على قول: «كنت مخدوعاً عظيماً». وأقول «كنت»، لا «سأكون». أسلفت أن «سأكون مخدوعاً عظيماً» لا يمكن أن تستقيم أبداً. لا يمكن أن تكون بغير صيغة الماضي «كنت».
مجرد لخبطة في جدول محاضرات كفيلة بتأكيد هذه الـ«كنت». كما تقديم ست ساعات أيضاً.
يعود «محمود حميدة» إلى بيته إذن، ليجد أمام عينيه ما يدفع إلى تحقيق «كنت مخدوعاً عظيماً». كائنان على فراغ الماء وقد تحولا إلى كائن واحد. كائنان في الألق. كأنهما خارج الكون كله فلا يلحظان دخول كائن ثالث عليهما. لتخرج الاسئلة دفعة واحدة.
 أين يذهب المعني هنا كما والعقل؟
تتكون «لماذا» كبيرة. «لماذا» بحجم ألم الكون كله. «لماذا أنا؟!» كأنه يقول مشيراً باتجاه عدم استحقاقه لأن يكون «مخدوعاً عظيماً». «لماذا» يقول معتقداً وموقناً أنه لم يكن مقصراً في شيء. يكتفي بالاسئلة، بالـ«لماذا» هذه ولا يفعل شيئاً. يخرج إلى الشوارع وقد ارتخت كرافاتته قليلاً، دلالة المهزوم والمنكسر. يخرج إلى الشوارع ناظراً إلى الامام. لا يلتفت إلى أحد. لم يفعل شيئاً لم ينطق أو يصرخ أو يعتدي على ذينك الكائنين.
يكتفي بنظرة إلى الأمام فقط وفيها يتركز بؤس العالم.
في «ملك وكتابة» جاءت «كنت مخدوعاً عظيماً» دفعة واحدة. تقديم ست ساعات كان كفيلاً بجرها من أذنيها. بالمقابل وفي فيلم (خيانة) انتاج (2002) جاءت «كنت مخدوعاً عظيماً» على دفعات. لم تكن كمطرقة هوت فجأة من السماء. كانت كعربة تسير الهوينا. وينظر «ريتشارد غير» إليها قادمة ببطئ على بداية طريق طويل يقع هو في الطرف المقابل. هو كان يعيش حياة هانئة ومطمئنة رفقة «ديانالين» زوجته ولديهما طفل. غني ومثابر ولا يهمل شيئاً. تقع (ديانالين) في مواجهة (أوليفيي ماريتينز) صدفة ذات تقاطع. ليقعا في الفراغ.هو يعلم جيداً أنه يقع. هي لا تعلم ولا تدري لماذا لكنها لا تستطيع التوقف. يعلم (غير) بهذا عن طريق صديق لتكون المراقبة وجعل (ديانا) تحت عينيه.ويصله الوقوع بطيئاً وعلى دفعات. يراقب ليعلم أنها لا تعي (وقوعها). ويغفر.
لكنه لا يستطيع انتشال ذاته من قسوة الـ«لماذا». لماذا حدث ما حدث ولم يكن مقصراً في شيء. يذهب لمقابلة «مارتينز» في شقته. يرى إلى كل زاوية فيها.
يحاول استنشاق عطرها الذي كان هناك.عطرها الذي كان ينتقيه لها بعناية. لا يجد الرائحة. لكنه يعثر على تذكار شبيه بقطعة أهدتها إياه في عيد ميلاده الأخير. هو غفر كل شيء بشكل مسبق كونه على يقين من أنها كانت لا تعي سقوطها. لكنه مع التذكار لا يستطيع غفرانه. وجد أن تقاطعه مع (مارتينز) ولو في نقطة واحدة يكفي لقتله. وهو ما يكون فعلاً.
وإذن.
نرى (محمود حميدة) هناك غارقاً في اسئلته في الـ«لماذا» الكثيرة التي هبطت عليه فجأة، فلا يترك بالاً للانتقام. انشغاله بألمه وبخديعته كان كافياً. و(ريتشارد غير) كذلك. لكنه لم يغفر نقطة تقاطعه مع أحد ولو بمجرد تذكار. هو يرى إلى أن وقوعها كان مرَضياً. أنها لم تكن تعيه. لكنها وبالمقابل في اختيارها لذات القطعة التي أهدته إياها كانت واعية تماماً. هي قامت باختيارها عن حب هو ذات الحب المماثل لحبها له. هي اعطت (مارتنينز) هديته عن وعي فيما لم تكن كذلك عندما شاركته كيانها.لكنها على العموم مسألة عصية على الفهم. فهمنا نحن هنا. وبالتحديد في مسألة غياب (عايدة رياض) هناك بعد لحظة ا نكشافها.وبين بقاء حضور (ديانالين) هنا وإلى آخر المشهد.
«سأكون ميتاً عظيماً».
«كنت مخدوعاً عظيماً».
يالبعد المسافة التي تفصل بين العبارتين.
jimy