حمدي البكاري يستقصي.. «دير عفيف».. حياة الظلام

حمدي البكاري يستقصي ..«دير عفيف».. حياة الظلام

على مقربة من المدينة التي رسمت مشهداً طاغياً من الصور الملونة لشخص واحد ثم طاقة كهربائية أساسية واسعافية ربما لإنارة هذه الصور، كان سبعمائة نسمة من أبناء الحديدة، ممن يعيشون الحياة واللاحياة معاً، يلعنون الظلام، وربما الذكرى، والفضائية اليمنية!! التي لا يشاهدونها لأسباب سترد لاحقاً.
الطريق إلى قرية «دير عفيف» القريبة من محطة رأس كثيب (35 كم من مدينة الحديدة) سهل ولكنه كافياً للتأكيد ألاَّ مسؤولاً مرَّ من هنا!!
يسكن أهالي القرية شعور بالقهر بفعل الاستفزاز اليومي الذي تفرضه عليهم محطة رأس كثيب. ولذلك فقد مرت الذكرى السادسة عشرة لإعادة تحقيق الوحدة اليمنية عليهم كمناسبة متجددة للبؤس!!
 
 حمدي البكاري
 
«دير عفيف».. حياة الظلام
يقول زلعي محمد: «احتفلنا وفرحنا تحت الضغط.. فنحن مضطهدون.. منذ قبل قيام الثورة وحتى الآن لم نشاهد اي منجزات...».
«زلعي» يعمل صياداً، وعندما بدأت الاستعدادات العملية للإحتفال مُنع الصيادون من دخول اماكن الصيد قبل الموعد بثلاثة ايام.. فحرم «زلعي» من قوت يومه. غير ان مشكلة «دير عفيف» لا تكمن هنا وانما تتجاوز ذلك بكثير كما سنلحظ.
300 طفلة بلا تعليم
القرية تتكون أغلب مساكنها من العشش ويعتمد معظم سكانها على الصيد والأشجار(!)
في القرية مشروع مياه متهالك بُني في فترة الرئيس ابراهيم الحمدي، ثم مسجد للصلاة سقفه على وشك السقوط.
كان الاطفال يدرسون في مدرسة محطة رأس كثيب (1 كم من القرية) بعد ان قدمت المحطة لهم «باص» لهذا الغرض. لكن مع الايام -كما يقول عمر عزيز- اوقفت المحطة هذه الخدمة فتعب الاطفال من حرارة الشمس ذهاباً واياباً وانهالت عليهم الامراض ويكاد تعليم الاطفال من الذكور يتوقف اما الاناث فقد توقف تعليمهن تماماً، وعددهن 300 تلميذة. فيما خصص باص النقل لأولاد العاملين في المحطة.
في بلد لا يأبه مسؤوليه لواجباتهم لا مانع من إلغاء التعليم برمته... اذ لماذا يتعلم الناس ليفهموا معنى حقهم في الحياة.. وبنظر المسؤولين المباشرين وغير المباشرين فمثل هؤلاء قد لا يستحقون الحياة نفسها فكيف بالتعليم؟!!
مفارقات العيش
 يحاول الأهالي العيش على جحيم المفارقات. فالأمراض تغزوهم بين فينة وأخرى دون وجود لوحدة صحية حتى الآن. فإذا ما مرض احدهم يلزم سفره ومرافقه إلى احد المشافي بمدينة الحديدة. وفي تعليق مصحوب بالمرارة يقول محمد عمر: «قد تحتاج إبرة بمائتين ريال لكنك تحتاج إلى 2000 ريال على الأقل تكاليف نقل المريض إلى الحديدة...».
يضيف: «لا يوجد أي شيء من منجزات الدولة.. لا مياه، لا كهرباء، لا مدرسة، لا وحدة صحية.. نحن محرومون تماماً. نحب السلطة ونحب الشعب والوحدة، لكن نريد ان نرتاح».
 
حياة الظلام
ما الذي يمكن أن يفعله البشر في القرن الحادي والعشرين اذا لم يمتلكوا الكهرباء؟!!
الإجابة بسيطة: العيش بوسائل قرون سابقة.
بالنسبة لأهالي قرية دير عفيف فالمشكلة تبدو مضاعفة، ليس فقط لحرمانهم من الخدمات الاخرى وانما لإن المحطة الرئيسة للطاقة الكهربائية (محطة رأس كثيب) لا تبعد عنهم سوى 2 كم..
ما يبعث على الحزن أيضاً ان جُلَّ اراضي المحطة يملكها بعض اهالي القرية دونما تعويض حتى اليوم.
منذ حوالي سبع سنوات يعيش الاهالي في ظلام دامس. قبل ذلك بخمس سنوات كان لديهم تيار من المحطة لكنه قُطع فجأة.. وكانوا قد مُنحوا ذلك مجاناً مقابل الاراضي التي اخذت منهم لبناء المحطة وكذلك تحمل الضجيج والأدخنة المتصاعدة من المحطة.
عبدالله عثمان يقول: «عندما قطعوا الكهرباء بحجة اننا لم ندفع تكاليف الاستهلاك لمدة خمس سنوات طلبوا منا دفع فلوس لإيصال التيار.. جمعنا فلوس وذهبنا بها إليهم حسب التكاليف لكنهم رفضوا.. وطلبوا منا الانتظار».
 
ألسنا أبناء الدولة؟!
يوضح القضية اكثر عمر عزيز: «نحن لدينا اراض بنيت عليها المحطة.. ولم نعوض مقابلها تحت مبرر حق الدولة.. فمنحنا كهرباء لمدة خمس سنوات تقريباً مجاناً.. لكن منذ سبع سنوات قطع عنا الخط فطلبوا منا تأمين قدره خمسمائة الف ريال مقابل منح كل بيت عداد على ان يُدفع النصف المتبقي لاحقاً. وعندما ذهبنا إليهم بالفلوس طلبوا منا الإنتظار حتى يأتي مشروع جديد.. بعدها قالوا لنا: مافيش كهرباء لأطراف المدينة.. حيث لا كهرباء ولا تعويض عن أراضينا، والمبرر: حق الدولة.. الدولة على رأسي وعيني لكن اعطونا خدمات اولية.. وكلنا ابناء الدولة».
ما يزيد الامر مفارقة ان هناك قرية اخرى تبعد عن قرية دير عفيف (1كم) فيها الكهرباء والخدمات مجانية.. أما السر فهذه القرية هي ملك مهندس فني المحطة.
غير ذلك من المفارقات تم تعزيز التوليد الكهربائي لمحافظة الحديدة بمحطة اسعافية (50ميجاوات) لكن هذه الطاقة المولدة تم تصريفها لإنارة عشرات الكيلومترات من الشوارع وهي تقترب زاحفة نحو منطقة «باب الناقة» رغم ان قرى عديدة على جانبي الطريق لم يتم انارتها، واهاليها يقضون لياليهم على وهج تلك الاعمدة.
 
أصوات القهر
الايام المقمرة هي أعياد سكان «دير عفيف».. وليس غير الفوانيس بديلاً.. انها حياة لا تطاق. حتى من قدر على بناء بيت من الاسمنت يترك بيته ليلاً متجهاً إلى العشش حيث الهروب إلى وضع أقل وطأة مع اشتداد الحرارة بحكم الموقع الجغرافي.
ما أسوأ أن تجتمع الحرارة والظلام. غير انه لا ابشع من ان تنتزع اراضي الناس بالقوة تحت ضغط خدمة الدولة وكأن هذه الدولة لا تعرف ان خدمتها لا تستقيم والنهب.. واذا لم يكن الوضع كذلك فعلى الأقل هناك ما يسمى بالتعويض..!!
ما اصعب ان تسمع صوت العجوز عائشة عبدالله والدموع تكاد تتساقط من عينيها: «بزّوا حقي وعندي قصار وأيتام.. الحكومة اخذت من ارضنا 4 كيلو.. الارض حقنا ومعنا بصيرة الملكية.. ولا جابوا لنا تعويض.. قبل سنتين عندما اخذوها كنا نبكي ونبكي.. لقد كنا نعيش عليها مما تنبته من اشجار.. والآن عملوا فيها ورشة فنية.. وليس معنا غير الله..».
الصوت نفسه يأتيك من الحجة سالمة محمد عبدالله: «اخذوا حقنا لمحطة الكهرباء.. حقي وحق ابي واحنا لا نعرف.. عملوها سكن لاصحاب المحطة.. ولا عوضونا بشيء..».
 
المشاعر على الأقل
لعبدالله ابراهيم، الذي يعمل في محطة رأس كثيب منذ 1997م، وجهة نظر تبدو عادلة بين اهالي قريته والدولة، فالقرية المحاطة بمنشآت حكومية لا تعني ان القرية ضدها كما يرى.
«نحن نحب المصالح الحكومية ونفرح بها لكن الدولة لابد ان تخدم الجميع».
الاهالي يحدثونك عن الزيارات المباغتة التي يقوم بها المرشحون اثناء الانتخابات لكسب الاصوات لكنهم سرعان ما يختفون بعد ذلك.
والأهالي يحاولون تفسير حرمان قريتهم بغياب زيارات المسؤولين اليها، وغياب الوسائل الكفيلة بإيصال معاناتهم.. ولهذا عبروا لـ«النداء».
والأهالي يطرحون ان انتظارهم لوعود المدرسة والكهرباء والمياه والوحدة الصحية قد طال كثيراً..!!
غير ان الاهالي وقريتهم يرسمون لوحة مغايرة عن بذخ الاحتفال بذكرى تحمل الرقم (16) ولسان حالهم يقول: «احترموا مشاعرنا على الأقل وابعدوا عنا هذا الضجيج ولا تكرروا خطاب المنجزات فنحن لم نعرف الحياة بعد»!