وقوف متكرر*

وقوف متكرر* - محمد صالح غراب**

عندما ترغم على أن تتكلم عن الموت، لن تتكلم عن واحدة من هؤلاء ماتت وهي تمارس وضعاً مبتكراً يمنح بعض الجدة، ولا يحقق شيئاً من المتعة. ولن تتكلم عن خبر أتاك بموت واحد من الذين عاشرتهم ثم اختفوا فجأة بحكم دوران الحكاية، وإذا بهم يظهرون مرة أخرى ليأخذوا مكانهم في حكاية عابرة، ثم يعودون -راضين- إلى الاختفاء. لكنك ستحكى تفاصيل أدق تخص رجلاً أتى بك إلى الحياة،متخيلاً أن هذا أعظم ما يمكن أن يهديه لك، ترك لك الكثير من الذكريات الطيبة، وبعض الألم الضروري وأورثك شطراً من ملامحه، وكل همومه، ومات.
أطلقت أمك الهادئة صواتاً عنيفاً، وانهارت أختك في مكانها، ولم تفق أنت من صدمتك إلا على أم رضا التي كانت تصوت وتبكي بكاء حقيقياً، وهي تلطم وجهها، وتمرغ خديها في الأرض. وإذا بأمك تبرك فوقها، تجذبها من شعرها وتعضها في ثدييها الممتلئين، تشل أمك حركتها تماماً، فتحرك هي رجليها ويتعرى نصفها السفلي، ستبين عانتها الكثيفة من حافتي الكلوت الأبيض الصغير المليء ببقع الدم من عند المؤخرة.
قامت وانصرفت باكية دون أن تنطق حتى يخيل لمن يراها أن حزنها كان الحزن الحقيقي الوحيد بينكم.
أصرت أمك أن يخرج أبوك من البيت، تولى منعم الأمر كله، فغاب قليلاً ثم عاد بسيارة تحت الطلب، التي حملت أباك إلى البيت، وركبتم أنتم مع منعم في ال128، تعاون الجيران في حمله إلى الشقة، وأعطت أمك لمنعم أرقام تليفونات اقاربكم فاتصل بهم.
يأتي الجميع، وتأتي هند مرتدية تاييراً اسود جميلاً، متأبطة ذراع أمها، لا تنظر إليك، وتدخل.
يدخلون ليغسلوه، ويلحوا عليك أن هذا واجب عليك، لكنك لم تقدر، ولا تعرف ماذا ستفعل. أنت لم تتخيل أصلاً أن ترى أباك ميتاً، فكيف تراه ميتاً عارياً؟!
يمر الأمر وكأنه ليس أباك، تظل بعيداً ومنطوياً وهم يسيرون الأمور، وكأنك ما تزال الطفل الصغير في شبرا الخيمة، تلعب أسفل البيت بمفردك، حتى يأتي بقية الأولاد الذين تعرف أنهم سيضربونك، فتختبئ داخل البيت، تنظر إليهم من بئر السلم المعتم، وهم يلعبون بلعبك ويحطمونها ولا تستطيع الخروج ولا المواجهة.
تشارك معهم في حملة، وتنزل لتجد أربع ميكروباصات تويوتا وعدداً من السيارات الملاكى المملوءة عن آخرها بكل أقاربكم الذين نسيتهم.
تقف السيارات امام باب الجامع الكبير ليصلوا عليه، وتتذكر أنك على جنابة، تقف أمام باب الجامع متردداً، حتى يأتي خالك،يضع ذراعه على كتفك حانياً، ويدخلك معه.
تلمح كولدير مياه في ركن المسجد، تذهب إليه وتتيمم خلسة على سطحة بنية العسل والوضوء، ولا تدري هل يجوز هذا والماء موجود بالداخل.
يصطفون في صفوف طويلة، وترى أناساً غرباء والجامع ممتلىء، فتشعر بالراحة لأبيك، ويقول الإمام:
«من المستجيب أن يتقدم أقرب أقربائه ليصلي عليه».
فيدفعك أخوالك وأعمامك، وأنت تتقهقهر وترفض، حتى يتقدم عمك الكبير فيقف الإمام بجواره أمام الميك ويقول:
«صلاة الجنازة صلاة بلا ركوع ولا سجود.. عبارة عن أربع تكبيرات. في الأولى تقرأ الفاتحة، وفي الثانية النصف الثاني من التشهد، وفي الثالثة تدعو للميت بالرحمة والمغفرة، وفي الرابعة تدعو لنفسك ولعامة المسلمين».
ويقول:
«استقيموا يرحمكم الله. كثروا الصفوف وأنقصوها، فإن الملائكة تكمل ما نقص من الصفوف».
ويتراجع تاركاً الميك لعمك الذي كان صوت بكائه واضحاً وهو يصلي. وأنت تدعو لأبيك تخايلك صورة الورقة المطبوعة الملصقة في كل مكان:
«التدخين حرام شرعاً».
وفي ذيلها خاتم النسر الأزرق، وتوقيع المفتى: د/ نصر فريد واصل.
وترى أن أباك لا بد سيعذب بسبب السجائر.
عندما يركبون السيارات متجهين إلى المدافن تركب وحدك مع نعش أبيك في مؤخرة السيارة البيجو ال7 راكب المكتوب على جانبيها «سيارة تكريم الإنسان».
يغلق عليك السائق الباب الخلفي، لم يكن هناك شبابيك في الخلف، وكان الزجاج معتماً، وقد فصل بين الجزء الخلفي والسائق بلوح أبلاكاش.
تشعر بحر شديد، وتتصبب عرقاً، تظل تردد لأبيك الشهادتين طوال الطريق بصوت عال، ولا تهتم بأن يسمعك السائق وعمك الكبير الجالس في الأمام، وأنت تقول لأبيك:
«إذا جاءك الملكان يسألانك:
- ما ربك؟
فقل:
- ربي الله.
- وما دينك؟
فقل:
- ديني الإسلام
- ومن الرجل الذي بعث فيكم؟
فقل:
- سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام».
بعد ذلك بكثير ستركب أحد الميكروباصات وتسمع شيخاً لا تعرف اسمه يقول في شريط إن هذا الكلام بدعة، ويتهكم ويقول: «هو الغش حتى في الموت.. حتى الميت.. هتغششوه الإجابة» فتدعو لأبيك بالرحمة.
دفع عمك أجرة التربى وأجرة المقرئ الكفيف الذي قرأ بعض السور القصار، وقال موعظة لم تفهم منها شيئاً. أعطاه عمك خمسة جنيهات، فظل يتحسسها بيده، ثم قال له: «هات كمان خمسة».
في نهاية اليوم تعودون مهدودين إلى مدينة السلام لتجدوا أخاك جالساً على السلم أمام باب الشقة، لم يكن يدري شيئاً عما حدث، وقد أغمقت بشرته من ماء البحر المالح، ضحك عندما رآكم، وقال:
«إيه ده كله.. أنا بحسب حد حصله حاجة».
ولم يلاحظ عدم وجود أبيه.
* مقطع من رواية بذات الاسم صدرت حديثاً عن دار ميريت - القاهرة
** روائي مصري.