تُظهر الدراسة عمق البحث وحقائق التحليل، إذ يُطرح الكتاب كنموذج يجمع بين الدقة الوثائقية والرؤية الرمزية العميقة لتاريخ مدينة تعز، ما يجعله إسهامًا هامًا في إعادة قراءة التاريخ اليمني من منظور شامل.
المقدمة
يستعرض كتاب "تعز فرادة المكان وعظمة التاريخ" للباحث الأستاذ القدير فيصل سعيد فارع، أبعاد خصوصية مدينة تعز على مستويات جغرافية وتاريخية وثقافية، إذ لا يقتصر على سرد الحقائق التاريخية بحتة، بل يستحضر رموز المدينة ومعانيها العاطفية والاقتصادية والسياسية. كان العنوان ذاته عبارة عن مقدمة شعرية تُعبّر عن عشق المدينة وتفردها، مستخدمًا أدوات بحثية توثيقية دقيقة اعتمد فيها على مجموعة واسعة من المصادر التاريخية (عربية وأجنبية وإلكترونية). هذا العمل ليس مجرد سرد تقليدي، بل هو رحلة تأملية تجمع بين العمق النظري والحس الإبداعي، ما يستدعي تناول تعز كمركز ثقافي وحضاري يمني فاعل.
العلمية والمنهجية كمميزات للبحث
1. البحث الوثائقي المكثف:
يشيد النقد بمنهجية فيصل سعيد فارع التي تميزت بالدقة والتفصيل، إذ استند كتابه إلى ما يزيد عن مائتي مرجع من المصادر (عربية، أجنبية وإلكترونية)، ما أضاف إليه مصداقية علمية عالية أسهمت في رسم صورة متكاملة لتاريخ تعز. لقد أتاحت هذه الدراسة للقارئ رؤية واضحة لكيفية نشوء وتطوير الهوية الحضارية للمدينة. وقام الباحث بجمع وفحص عدد واسع من المصادر والمراجع، إذ اعتمد على ما يقارب 25 مرجعًا عربيًا، إلى جانب 6 مصادر أجنبية و10 مراجع إلكترونية، مما أتاح له رسم صورة شاملة ومتعددة الأبعاد لتعز. هذا التنوع في المصادر لم يقتصر دوره على تثبيت الحقائق التاريخية فحسب، بل فتح آفاقًا لتفسير الأحداث وتحليلها من منظورات متعددة تتداخل فيها الآراء المحلية والدولية والتراثية.
وتميز الكتاب بمنهجيته الوثائقية، وبأنه لم يكن مجرد تجميع للمعلومات، بل كان عملًا بحثيًا دقيقًا يتطلب العودة إلى المصادر الأولية والثانوية على حد سواء، لتأكيد مصداقية البيانات، وتجنب الوقوع في التكرار أو السطحية. وبهذه العملية الوثائقية بنى الباحث سردًا تفاعليًا يربط بين الواقعية التاريخية والرمزية الثقافية، وأظهرت المراجع التاريخية القديمة والوثائق الرسمية والمشاهد المادية، مثل الصور والرسومات الأثرية، كيف أصبح التاريخ جزءًا لا يتجزأ من الهوية الحضارية لتعز.
وبمنهجية أدق، لجأ فارع إلى تقديم تحليل نقدي دقيق يُظهر قدرة عالية على مقارنة المصادر وتبويبها وفق معايير زمنية وجغرافية، ما سمح بتوزيع الأفكار وترتيبها بطريقة تؤكد على ديناميكية تطور تعز كمركز حضاري. إن هذا البحث الوثائقي المكثف لا يسهم فقط في صحة الرواية التاريخية، بل يعكس أيضًا حساسية الباحث لإبراز التناقضات والتداخلات بين الحُقب التاريخية المختلفة، ما يمنح القارئ رؤية شاملة وفاحصة تعيد إحياء الماضي بمصداقية علمية وإبداع أدبي، و يواكب تطورات الكتابة التاريخية الحديثة، مؤكدا على أهمية التوثيق الدقيق ليس من أجل تقديم سردٍ تاريخي جامد، بل لنقل حيوية الأحداث وعمق التجارب الإنسانية التي شكّلت معالم تعز عبر العصور. مقاربة تضع الكتاب في مصاف الأعمال البحثية الرصينة.
2. التداخل بين مختلف المجالات:
لا يقتصر العمل على بعد تاريخي فحسب، بل يتخطاه إلى رؤية إدارية واقتصادية تُبرز دور تعز كمحور للتغيير والسياسة، كما يسلط الضوء على قيمة التراث الثقافي والرمزي. هذا التداخل بين الجوانب الاقتصادية والإدارية والثقافية يُثري الحوار البحثي، ويعيد صياغة العلاقة بين الماضي والحاضر.
يمتاز الكتاب بتداخل منهجي يجمع بين التحليل التاريخي والإداري والاقتصادي والثقافي لتقديم رؤية شاملة لتعز. ففي جانب الإدارة والاقتصاد -وهو مجال تخصص الباحث- يستعرض المؤلف تأثير الظروف الجغرافية والسياسية على البنى الاقتصادية للمدينة، بينما يُبرز الجانب الثقافي من خلال عرض التراث الشعبي والأدبي الذي يعكس الهوية الاجتماعية لتعز. يمكن اعتبار هذا الدمج المتعدد للمناهج إطارًا بحثيًا متكاملًا يفسر الظواهر التاريخية والاجتماعية دون اللجوء إلى تبجيج زائد، بل بمعالجة موضوعية تحلل الأسس التي أسهمت في تطور المدينة.
3. النهج الرمزي والعاطفي:
واعتمد الكتاب نهجًا رمزيًا وعاطفيًا ولغة واضحة على إشارات ورموز تُبرز الارتباط العميق بين تعز وهويتها التراثية، دون اللجوء إلى المبالغة في الإطراء. مستعملًا هذه الرموز ليس لتزيين السرد، وإنما كأداة لتحفيز التفكير وإيصال معانٍ تتجاوز السرد التاريخي البسيط، مُسلطًا الضوء على الذكريات والرموز التي تشكل الوعي الحضاري للمدينة. كما يُمكن ملاحظة توازن واضح بين الجانب العاطفي والتوثيق التاريخي، إذ يربط بين تجربة الشعور الجماعي والوقائع التي تؤرخ لتطور تعز، دون الخوض في لغة مفرطة الثناء.
قبل الطبعة الثانية للكتاب.. نواحٍ تستدعي التعمق:
1. التوجه السياسي والقيودي:
رغم أن الكتاب يقدم رؤية نقدية تجمع بين الأدلة التاريخية والتحليل الثقافي، إلا أن الدراسة النقدية تشير إلى أن بعض محاور العمل تتبنى رؤية سياسية معينة تُعزز فكرة الدولة القائمة على قانون وحرية لا تبدو متوافقة مع الواقع اليمني الراهن. فقد يُظهر النص ميلًا لتصنيف بعض التحولات التاريخية ضمن إطار حيوي سياسي ضيق، مما قد يستدعي اعتماد نموذج أكثر شمولية يدمج بعدًا اجتماعيًا وثقافيًا متوازنًا.
2. الحساسية في النقاط الذاتية:
على الرغم من التزام الكاتب بالمصادر والوثائق البحثية بدقة، تظهر بعض أجزاء الكتاب لمساتٍ من الرؤى الذاتية المتأصلة في تجاربه أو سياقاته السياسية الخاصة. يمكن اعتبار هذا التوجه تعبيرًا عن حساسيته تجاه الموضوع مضافًا عليها خبرة المثقف النوعي والعضوي في تجاوز إشكالاتها، وهو ما يُفهم في إطار طبيعة التأليف النقدي. تؤدي هذه اللمسات الشخصية إلى إضفاء بعد إنساني وعاطفي على النص، ما يجعل السرد مميزًا وفريدًا. ومع ذلك، قد يُحد هذا التوجه في بعض الأحيان من قدرة العمل على تقديم تحليل خالٍ من الانحياز، مما يستدعي في الدراسات المستقبلية تبني منهجية أكثر حيادية تُتيح المجال لعرض تعددية الآراء وتقديم رؤية شمولية لواقع تعز.
3. النطاق التوسعي لبعض المحاور:
بينما يمزج الكتاب بين التحليل التاريخي والإداري والاقتصادي، إلا أن هناك بعدًا اجتماعيًا وثقافيًا يُمَكِّن الباحثين من استنباط المزيد من المواضيع مثل دور الزراعة والتكوين الاجتماعي في تشكيل الوعي الحضاري. وهذه النقطة تمثل فرصة كبيرة لدراسات مستقبلية توسيع الطيف البحثي لتشمل تطور البنى الاقتصادية والسياسية، ودور الزراعة والعلاقات الاجتماعية في تشكيل الوعي الحضاري والهوية المشتركة بين أفراد المجتمع. هذا التلميح إلى جوانب حيوية مثل التكوين الاجتماعي ومساهمته في بناء الثقافة يشكل فجوة بحثية تفتح آفاقاً واعدة، إذ يمكن للدراسات المستقبلية أن تتعمق في هذه الميادين لتقدم قراءة أكثر شمولية عن تأثير العوامل الاجتماعية والثقافية في تطور المدينة.
الأهمية والآفاق المستقبلية
يُعدّ كتاب "تعز فرادة المكان وعظمة التاريخ" إسهامًا جريئًا في أدب الدراسات اليمنية، إذ يُظهر كيف يمكن لرؤية بحثية متكاملة أن تعيد بناء الهوية التاريخية لمدينة عريقة مثل تعز. كما يشير النقد إلى أن العمل يشكل منصة انطلاق للباحثين لتناول موضوعات أخرى تتعارض مع الخطابات التقليدية، مثل دراسة التغييرات الاجتماعية والاقتصادية التي ترافق التحول الوطني.
كما يُمكن استخلاص عدة توجهات مستقبلية: منها الاستفادة من المنهجية التحليلية المتكاملة لدراسة تأثير الجغرافيا الطبيعية على الهوية الثقافية والاجتماعية لتعز، وتنمية البعد الاجتماعي والاقتصادي، من خلال بحوث متخصصة تتناول الزراعة والتكوين الاجتماعي ودور القطاع الخاص في دفع التطور الحضاري، وإعادة قراءة التاريخ في سياق معاصر لمحاور تُسهم في بناء رؤية وطنية قائمة على القانون والحرية، مع مراعاة التعقيدات التاريخية والسياسية للمنطقة.
يُعتبر عمل الأستاذ القدير فيصل سعيد فارع في "تعز فرادة المكان وعظمة التاريخ"، نموذجًا بحثيًا متماسكًا يجمع بين الدقة العلمية واللمسة الرمزية العميقة، مما يجعل منه مرجعًا هامًا لإعادة قراءة التاريخ اليمني. ويظل العمل دعوة مفتوحة للباحثين لاستكشاف مزيد من الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية والبيئية لتعز. إن مثل هذه الإسهامات البحثية تمثل حجر الأساس للحوار الحضاري والنقد العلمي الذي يعزز وعي المجتمع، ويُحفّز على بناء مستقبل أكثر إنصافًا وشمولًا.
وبعبارة أخيرة، هذه الدراسة النقدية تؤكد أن العمل ليس مجرد توثيق تاريخي، بل هو تجربة تحليلية متكاملة تُعيد صياغة العلاقات بين الماضي والحاضر، مما يُعد خطوة رائدة نحو تحقيق قراءة موضوعية ومبتكرة للواقع اليمني.
تنويه:
هذه الدراسة النقدية هي الثانية لي، فقد نشرت في صحيفة "الثورة" الرسمية، في مايو 2015م، مقالًا نقديًا للكتاب.