صنعاء 19C امطار خفيفة

وطنٌ بلا راعٍ... عندما تصبح الحياة رهينة السلاح

لم أعد أفهم معنى "الوطن" كما كنت أتصوره يومًا.
ذلك المفهوم الذي لطالما ربطناه بالأمان، والانتماء، والدفء... أصبح اليوم مرادفًا للخوف، للدم، للصراخ، وللجنازات اليومية التي تمر من أمامنا كأنها جزء من روتين الحياة.
في وطني، لم يعد حمل السلاح مقتصرًا على من يحمي الحدود أو يذود عن الأرض.
بل بات كل من يملك شهوة سلطة أو نوبة غضب يحمل سلاحه كما يحمل هاتفه، جاهزًا لإطلاق النار متى شاء، على من شاء، لأتفه الأسباب.
نزاع بسيط، خلاف عابر، نظرة لم تُفهم، وكلها أسباب تكفي في وطني لتُزهق روحًا، لتُبكي أمًا، ولتحفر قبرًا جديدًا في تراب لم يجفّ عليه الدم بعد.
الأدهى من كل ذلك، أن القاتل قد لا يهرب. لا يختبئ.
بل ربما يبقى في مكانه، يعلو صوته، يتحدث بثقة، لأنه يعلم تمامًا أنه لن يُحاسب.
ليس لأنه ذكي أو بارع في التخفي، بل لأن الرقابة ماتت، لأن القانون ضاع، لأن الدولة نفسها فقدت هيبتها، أو ربما لم تعد موجودة أصلًا.
ما يؤلم أكثر، هو أن من كان يُفترض أن يكون درع الوطن، حامي الشعب، أصبح في حالات كثيرة طرفًا في الجريمة.
بعض رجال الأمن، وهم من يفترض أن يحموا أرواحنا، باتوا يمارسون الانتهاكات نفسها التي يُفترض أن يمنعوها.
وباسم السلطة، وبحجّة النظام، يُقمع المواطن، ويُهان، ويُسجن أحيانًا، أو يُطلق عليه الرصاص وكأن الحياة لا قيمة لها.
ليس هناك جهة تلجأ إليها. لا مؤسسات تحميك. لا عدالة تُعيد لك حقك.
لقد انهارت الدولة حتى في شكلها البسيط.
لم نعد نشعر أننا نعيش في وطن حقيقي، بل في قرية كبيرة بلا نظام، بلا قانون، بلا رأس يُحاسب ويُوجّه.
صرنا نحمل جراحنا ونمضي، نحاول النجاة لا العيش.
نحلم فقط بيوم يمرّ دون خبر مقتل، دون صفارات إسعاف، دون جنازة شاب لم يُكمل العشرين.
صرنا نحسد من مات قديمًا، قبل أن يرى ما وصل إليه هذا الوطن.
صرنا نخاف على أطفالنا أن يكبروا في وطن يعلّمهم كيف يُقتل الإنسان، لا كيف يُحب، كيف يكذب لا كيف يُحاور، كيف يُخيف لا كيف يُنقذ.
لقد أصبح الوطن قبرًا كبيرًا، نعيش فيه على قيد الموت، ننتظر دورنا بصمت، وسط عجزٍ جماعي، وخوفٍ زرع في العقول قبل القلوب.
إنها ليست أزمة أمنية فقط.
إنها أزمة هوية، أزمة وطن لم يعد يعرف نفسه، ولم نعد نعرفه.
نحن لا نعيش فقط في فراغ أمني، بل نعيش في فراغ إنساني، حيث تلاشت القيم، وتعرّت المبادئ، وأصبح صوت البندقية أعلى من صوت العقل، وأسرع من صوت الضمير.
لم نعد نطلب الكثير. لم نعد نحلم بازدهار أو رفاهية.
صرنا نحلم فقط بحياة طبيعية، بسيطة، نخرج فيها إلى الشارع دون أن نخشى أن تكون خطواتنا الأخيرة، أو أن تقع أعيننا على مشهد دموي جديد، يضاف إلى أرشيف الذاكرة المنهكة.
أيّ وطن هذا الذي يتحول فيه المواطن من كائن له حقوق إلى هدفٍ متحرك؟
أيّة دولة هذه التي يخاف فيها الطفل من الشرطي، وتخشى فيها الأم أن تودع ابنها إلى المدرسة؟
أصبحنا نعيش في ظل حالة من الرعب المستمر، لم نعد نثق في أحد، ولا نأمن أحدًا، حتى أبناء الحي الواحد، بل حتى أفراد البيت الواحد أحيانًا باتوا يتحاشون الحديث عن شيء، لأن الكلمات قد تُفهم على نحوٍ خاطئ، وقد تنتهي بخسائر لا يمكن تعويضها.
أسوأ ما في الأمر، أن هذا الوضع لم يعد حالة طارئة، بل أصبح نمط حياة.
تأقلم الناس مع الموت، مع الخوف، مع الفوضى.
صرنا نمرّ بجانب الجثث على الأرصفة دون أن نلتفت، نسمع صوت الرصاص فنكمل حديثنا، نرى مشاهد الدم على الشاشات فنتابع بعدها فيلمًا كوميديًا.
هذه ليست حياة، هذه لعنة.
وهذه اللعنة لن تزول إلا عندما يعود الوطن إلى نفسه، عندما تعود الدولة دولة، والعدالة عدالة، والشرطة حماة لا جلادين، والقانون هو السيد الأعلى لا السلاح ولا الأهواء.
نحن بحاجة إلى صحوة، لا على مستوى الفرد فحسب، بل على مستوى الوعي الجمعي.
نحن بحاجة أن نتوقف عن الخوف، وأن نرفض التطبيع مع الموت، وأن نعيد صياغة علاقتنا بوطنٍ يستحق أن نعيشه لا أن نموت فيه كل يوم.
السكوت لم يعد خيارًا.
فالصمت في حضرة الدم خيانة، والتغاضي عن الظلم مشاركة فيه.
وإذا لم نصرخ اليوم من أجل الحياة، فسنُدفن غدًا في صمت، كما يُدفن المئات يوميًا دون اسم، دون ملامح، دون قصة تُروى.
نحن لا نعيش فقط في وطنٍ مكسور، بل نحن أنفسنا أصبحنا أشلاء.
أرواحنا منقسمة بين الرغبة في الرحيل، والحنين إلى ما كان، بين صرخة نكتمها خوفًا، ودمعة تنزف في صمت.
في وطني، لم تعد البيوت مأوى، بل تحوّلت إلى قلاع خوف، نغلق أبوابها في وجوه المجهول، نتحصن بها من عبث الشوارع، من جنون الأرصفة، من الطلقات التي لا تفرّق بين مذنب وبريء.
هل نحن على قيد الحياة فعلًا؟
أم أننا موتى نتحرك؟
نمشي بين الأنقاض، نحمل فوق ظهورنا أكفانًا غير مرئية، ونبتسم رغم أن قلوبنا مليئة بالخوف، وأرواحنا مشروخة كزجاج مهشم.
أصبحنا نُقنِع أنفسنا أن الغد سيكون أفضل، لكن الغد يأتي كل مرة ومعه دماء جديدة، وقصص جديدة لمآسٍ لا تنتهي.
نقرأ الأخبار كمن يقرأ صفحات نعيٍ، نعد الضحايا كما تُعدّ الأرقام في دفتر حساب، لا ملامح، لا هوية، فقط اسمٌ وتاريخ وسبب: "طلقة... طعنة... انفجار...".
أما الدولة؟ فهي لم تعد أكثر من شعار على جدارٍ متشقق، أو طابَع على ورقة رسمية لا قيمة لها.
أما الوطن؟ فقد صار سؤالًا مؤلمًا نردده في دواخلنا دون أن نجد له إجابة:
أين الوطن؟ من أخذه؟ متى يعود؟ وهل سيعود أصلًا؟
وفي النهاية...
نموت كل يوم بصمت، لا لأننا جبناء، بل لأننا تعبنا من الصراخ في وطنٍ أصمّ.
نهتف بأصوات مبحوحة في صحراء لا تسمع.
نبحث عن ظلّ وطنٍ بين ركام الذكريات، بين رائحة البارود، وبقايا صورٍ معلّقة على الجدران.
لكن الحقيقة الأكثر وجعًا هي أننا لم نعد نطالب بالكثير.
نحن فقط نريد أن نعيش دون أن نُقتل.
أن نحلم دون أن يُكسر الحلم برصاصة.
أن نُحبّ دون أن نخاف على من نُحب.
أن نمشي في الشوارع دون أن نودّع منازلنا وكأنها المرة الأخيرة.
نريد وطنًا...
فقط وطنًا، لا أكثر.
ويا لِبساطة هذا الطلب... ويا لفداحة العجز عن تحقيقه.

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً