في التاسعة مساءً، وبينما كنت أتجوّل بلا وجهة محددة في حي الشيخ عثمان بمدينة عدن، وجدتني أمام مقهى متوسط الحجم، لم أسمع به او قرأت عنه من قبل مكتوب على لوحته المضيئة "مقهى الشجرةٌ" دخلت، وجلست، طلبت فنجانًا شاي حليب مع الريش كما تعودت انا وصديقي وضاح اليمن، ثم آخر، ثم ثالثًا. وبينما كان صوت فريد الأطرش ينساب من ملف MP3 ، شعرت أنني لا أشرب الشاي وحسب بل أرتشف من ذاكرة المدينة بنعومة فريد الدافئة.
كانت تلك اللحظة هي الشرارة. تساءلت: لماذا للمقهى هذا الحضور؟ لماذا يبدو وكأنه أكثر من مكان؟ كأنه كائن حيّ، يتنفس بالأفكار، ويُنصت للزمن، ويُعيد تشكيله.
مقهى "الشجرة": ذاكرة عدنية تتكلّم
تأسس مقهى "الشجرة" عام 1952 على يد الحاج عبده مكرد العزعزي، القادم من ريف تعز بعد رحلة اغتراب طويلة في الحبشة. غرس شجرةً أمام المقهى فغدت رمزًا للظل والسكينة، ومن هنا جاء الاسم. لكنه لم يكن مجرد مكان لتقديم الشاي العدني الشهير، بل صار صالونًا سياسيًا وأدبيًا وفنيًا، احتضن مناضلين ضد الاستعمار البريطاني، وشعراء كتبوا قصائدهم على ورقٍ مبلل بالشاي، وفنانين غنّوا لأول مرة بين جدرانه.
في هذا المقهى تتلاقى العزلة مع الضجيج، مدخل للذات و ألآخر يولد النص من رحم الثرثرة. شاعرٌ يدوّن مطلع قصيدة على منديلٍ ورقي، مفكرٌ يحدّق في فنجانه كمن يقرأ طالع الحضارة، فنانٌ يرسم على بخار الكوب ملامح امرأةٍ لم يرها إلا في الحلم. المقهى ليس مشهدًا عابرًا، بل هو جوهرٌ حيٌّ للمجتمع المتخيل.
المقهى كمنصة للخلق والتأمل والثورة من "ريش" القاهرة، حيث كتب نجيب محفوظ "زقاق المدق"، إلى "الهافانا" بدمشق، حيث تلاقى الحكواتي مع المثقف، وإلى "الهورس شو" ببيروت، الذي كان سفارةً أدبية عربية، وصولًا إلى "الزهاوي" و"الشابندر" ببغداد، التي كانت ساحات خصبة للصراع الأدبي والفكري—المقهى دومًا كان منصة الخلق. وأنا، مثلكم ايضا، كتبت أجمل أعمالي الشعرية في مقهى، حيث تختلط اللغة برائحة القهوة، والقصيدة ببخار الشاي.
في زمن القمع، المقاهي تحولت إلى منابر غير رسمية، منها انطلقت الثورات، وتشكلت الأحزاب، وتحولت الطاولات إلى طاولات قرار. مقهى "النهاية" في الجزائر، مثلًا، اختير فيه النشيد الوطني، مثلما كان مقهى "الشجرة" في عدن نقطة انطلاق لهجمات فدائية، وملاذًا للمقاومين، ومنبرًا للصوت العربي الذي لا يُخفت.
في غرفة مقهى بلندن، تأسست الجمعية الملكية للعلوم، وفي ألمانيا وقف فريدريك العظيم عاجزًا أمام سلطان القهوة كمصدرٍ للفكرة الحرة. المقهى مختبرٌ بلا أنابيب، مكتبةٌ بلا رفوف، وندوةٌ بلا ميكروفون، حيث يعيد الفيلسوف صياغة العالم، ويتأمل الكاتب ذاته داخل مرآةٍ من السيراميك.
نزار قباني في "الروضة"، فان غوخ في "مقهى الشرفة في الليل"، أم كلثوم في بداياتها، السينما العالمية في حواراتها الحيّة… كلهم جعلوا المقهى بطلًا خفيًا في قصص الجمال والانبعاث، وقد تكرر ظهوره في الحياة تمامًا كما في الفن.
المقهى ليس مكانًا، بل كائنٌ حيٌّ يتنفس بالأفكار. هو رحمٌ للفكرة، ومسرحٌ للتحوُّل، ومرآةٌ للمجتمع. فيه يكتب الكاتب، ويثور السياسي، ويغني الفنان، ويتأمل الفيلسوف، ويخطط رجل الأعمال. هو المكان الذي لا يُطلب فيه الصمت، بل يُحتفى فيه بالضجيج الجميل.
إذا أردت أن ترى المستقبل، اجلس في مقهى، وراقب كيف تُولد الأفكار من فنجانٍ صغير.
إذا أردت أن تكتب قصيدةً لا تُنسى،
ابحث عن طاولةٍ خشبية، واغان من الزمن الجميل، وثلاثة فناجين شاي حليب عدني... فالحكاية تبدأ من هنا.