حين الحديث عن الأغنية "التعزيّة" أو الأغنية في محافظة تعز اليمنية (حوالي 260 كم جنوب العاصمة صنعاء)، يجب أولًا واعتبارًا الحديث عن الكمية الهائلة من موروث محافظة تعز الثقافي، ليس فقط لأنها العاصمة الثقافية لليمن، لكن لأنها ذات امتداد تنويري وأناقة روحية وألق معرفي، منذ عهد الدولة الرسولية (626-858 هـ/1228-1454م) التي كانت تعز هي عاصمتها التاريخية والسياسية، ومركزها العلمي والتعليمي والثقافي والمعرفي، وثِقلها الاجتماعي. في عهد الرسوليين كانت تعز كاستثناء بديع في لفت أنظار نخبة الأدب والشعر وتفاصيل الإبداع الفني والغُنائي ورموز القلم النوعي، والفكر والتفكير والتنوير ومختلف حالات التمهير، وكل التجارب المهْنية، لا سيما الطبية والأشغال اليدوية والمهارات الحرفية "ذات الصِّيت اللاّمع والذوق الجامع"، في ذات الحضور كانت الأغنية، وكان الشجن، وكانت الحاضرة والعاصمة الرسولية "عُدَيْنة"، وهو الاسم التاريخي لتعز، هي شاهد ملك، والمملكة الجمالية لكل استمازات الإبداع.
توارثت أجيال الحاضرة التنويرية "تعز" مهارات الإبداع الفني "الغنائي" تحديدًا ضمن منظومة جملة موروثات إنسانية، واغلبها كمحاكاة لعمق الهوية في سياق ديموغرافيا الأرض والإنسان وألق الفن، وخصوبة الخيال الواسع، ونُضج الفكرة الإبداعية بجمالياتها التي صاغت الرؤية التنويرية، بتبادل معرفي استوعبت كل خارطة اليمن، "من الجوف شمالًا شرقيًا إلى حوف جنوبًا غربيًا"، كون تعز حازت على وسام إنتاج مختلف المتخصصين، فالمعلم والطبيب والمهندس والمعماري والاكاديمي والمثقف، وخبير السياسات ومدراء الحوار المجتمعي وصناع القرار السياسي وغيرهم في وقت مبكر، وهذا ما جعلها تتحمل أعباء مسؤولية جبارة لخدمة المجتمع اليمني (شمالًا وجنوبًا) منذ ما قبل الوحدة اليمنية في 22 أيار/ مايو 1990م أو بعدها، وحتى اللحظة.
في الذات السياق
الأغنية في محافظة تعز كجزئية عريقة بمنظومة الإبداع الفني، والعمل الثقافي والأدبي والعمق الإنساني، وفي المخيال الاجتماعي، تشكّل الأغنية بكل تفاصيلها كهمزة الوصل بين تغريبة الأنا ومحاكاة الهوية والقضية وحكاية وجع اجتماعي، وكانطباع روحي هو الآخر يحاكي كمية عميقة من أوجاع عشق منه مباح وآخر ممنوع، ويروي من رواية الفرح واللقاء الكثير، ومن روائية الوداع والحزن أكثر وأوفر، هو ما طبع الأغنية في محافظة تعز بطابع فني سيميائي، أغلبه مواساة وأفصحه عتاب، ولذعة منه عذاب، لكنه في الظاهر لطيف لمن عاناه وفي باطنه حتى الأغنية ليست قادرة على تحليله، والإفصاح عنه حسب تراجيديا الأغنية التي يمكن استنطاق مكنونها الفلسفي.

الحالة السائدة في الأغنية التعزيّة التي يمكن رصد رجْع أصدائها منذ ثلاثينات القرن من خلال فنانين من أبناء تعز أو من خارجها وأقاموا فيها لاعتبارها ضمن حواضر الهجرة، لأنها لم تقتصر أن تكون عاصمة الرسوليين، وأيضًا كانت عاصمة سياسية للمملكة المتوكلية اليمنية، فكانت أبوابها مُشرَعة أمام كل الوافدين من أنحاء اليمن حتى من خارجها، نتج عنه إحداث حراك ثقافي تفاعلي أحدث هو الآخر حالة من الدمج الاجتماعي والإنتاج الأدبي والفني، وتبادلية معرفية واندرجت الأغنية ضمنها، وحين تجبرنا على استنطاقها من حيث Vocal Range للحديث هنا عن مدى الإنغام المرتفع أو المنخفض، سيُتاح لنا الرصد في السياق الأدائي لدى الفنانين الغنائيين آنذاك، والخلاصة لهذه الحالة الرصدية توضح الصورة العامة لمواجع عاطفية جامحة تأنسنت بعناية شعرية، ونفسية شاعرية هي من صنعت اللحن، وصاغت للمواجع أقوى بيانات العتاب، أسّست لواقع ولواقعية الأغنية في تعز حالاتها ومسرحها ومسافاتها ومساحاتها ومدياتها سواء فيما يتعلق بالانسيابية النّطقية واللفظية Vocalization من جانب أو ضبط Vocally كضبط الأداء الشكلي للصوت، إضافة لضبط Range والعناية بالسلم الموسيقي والذي اعتمد عليه كل من ارتبط بالأغنية ابتداءً من شعراء الأغنية حتى صناع الألحان إلى العازفين والمؤدين وحتى "الطبلنجية"، وعموم الموسيقيين والمطربين... إلخ.
في الأغنية التعزية لا يمكن أبدًا تجاهل حالة Breath Control لإيضاح القدرة على الإدارة التنفّسية أثناء الأغنية وبلا اعتبار لحالة bar none كانقطاع نشاز دون استثناء تقني موسيقي في الأداء، ولهذا نلاحظ الأغنية التعزية في الغالب ذات نسجية أدائية مكتملة متكاملة مع وحدة النص الشعري الغُنائي موضوعيًا، هنا يمكن القول إن الأغنية التعزية في سياقها الشعبي وصلت لذهنية المجتمع ضمن ثقافة اجتماعية، وصاغت في فن الأمثال ما يلبي حاجة الفرد للاستشهاد، لسهولة مضمونها الشعري أو الغنائي أو لاقترابها الحميم من سيكولوجية الفرد، ومحاكاة الضمير والعاطفة الاجتماعية.
ما يميز الأغنية التعزية ضبط Vibrato كاهتزاز خفيف في النغمة ليعطي طابعًا جماليًا للصوت، هذا الفِبراتو، لا سيما وأن اغلب الأغاني في تعز في إطارها القرار وبعض أغانٍ بين قرار وجواب، لكنها قد تكون من الشّحة بمكان.
بكل سهولة يمكن حشد كمية كبيرة من الأغاني في تعز تندرج ضمن أغاني أكابيلا A cappella، ولا تحتاج لآلات موسيقية لكمّ اعتبارات منها أن البيئة الاجتماعية في محافظة تعز بمثابة خزان من الأليل والأنين، وجاءت منه "المُلالاة" كنوع من الحُداء، وفي مناطق وبيئات يمنية يوجد الدان والبالة والمَهْيَد "كتفاصيل موسيقية" أو المَهْجل والزامل وأخرى، بالتالي فالأليل في محافظة تعز صاغ المُلالاة وصاغت هي الأخرى إيقاع Rhythm لاستنطاق نمطية زمنية لتتابع الأصوات "الغنائية" الإيقاعية المتناغمة بوزن شعري متواتر وباتزان يخضع للإيقاع، ويخضع للوزن كذلك.
هذه الحالة الأليلية الأنينية ناتجة أصلًا عن وضع اجتماعي سائد في محافظة تعز مرتبط بالهجرة والانتقال، من أجل طلب الرزق أو طلب العلم، وتكاد تكون تعز هي الأولى من محافظات ومناطق اليمن بتصدير الكفاءات والمتخصصين ومختلف "الشِّغيلة" بكل مجالات سوق العمل، من خلاله صاغ الشعراء ومثلهم صنع الملحنون ألحانهم، وغنّى المغنون أغانيَهم للهجرة والغياب وأوجاع الفراق ومعاتبة الحال والحبيب والزمن والهم الاجتماعي والأسري المتراكم حدّ الأليل الذي وصل إلى مستويات فراق الحبيبة ثاني أيام الزفاف من أجل المعيشة، هنا كان للأغنية التعزيّة موقفها الاستثنائي لمحاكاة هذه الطبيعة من الظروف.

في المُجمل يوجد في محافظة تعز لون غنائي في سياق المدارس الغنائية التي تأسست في حواضر المدن اليمنية، منها المدرسة الحُمينية والتهامية واللحجية والحضرمية، يبقى للألوان الغنائية من ضمنها لون الغناء التعزي، كما يوجد اللون اليافعي والعدني والبدوي وغيره، ويتصدر اللون الغنائي في محافظة تعز صدارة متألّقة كاهتمام وهجس الشعراء الغنائيين في تعز نظرًا لوفرة كُتاب نص الشعر "الغنائي" بأكثر بيئات اليمن حضورًا ثقافيًا مزدهرًا، هنا لا تنحصر القائمة في عبدالله عبدالوهاب نعمان "الفضول" وسلطان الصريمي وأحمد الجابري ومحمد عبدالباري الفتيح "المشقر بالسحابة" وسعيد شيباني وصفوان المشولي وأحمد الصميد وعبدالرب مقطري والقرشي عبدالرحيم سلام وعبدالحكيم الشريحي الصبري ومحمد المقطري "الربح" وهاني جازم الصلوي ورضوان الأسودي وعمار الزريقي ويحيى الحمادي وعبدالخالق سيف ومنصور الأصبحي ونزار القدسي وآخرين، كما لم تقتصر قائمة الفنانين على أيوب طارش عبسي وعبدالباسط عبسي وقائد أحمد علي وعبده إبراهيم الصبري ومنى علي ونجيبة عبدالله وعبدالغفور الشميري وبشير المعمري وصدّيق الشيباني وأحمد راوح وأحمد مهيوب وصبري السقاف وياسر العبسي، وكذا المايسترو فؤاد الشرجبي وهشام النعمان وفؤاد عبدالواحد ومعمر الزريقي وعمر ياسين وهاجر النعمان وربيع الحمادي وعمار الشيخ وعبدالباسط القاهري وغيرهم من الرموز الإبداعية الغنائية سواء كأشخاص أو فِرَق غنائية، وأغلبهم اشتهروا في حفلات الأعراس "المخادِر" والمناسبات، ويبقى أن أغلب رموز الفن الغنائي في تعز لم يبلغوا مستوى إنتاج اللحن وضبط الأداء ضمن تقنية الأغنية في سياقها الموسيقي.
الموسيقار والمايسترو محمد عبدالملك أنعم، الذي يقيم في قلب مدينة تعز، له دور بارز في حضور وموسقة وضبط تقنية الأغنية التعزية تحديدًا، يستغرب من حالة التجاوز التقني سواء للأغنية التعزية أو غيرها، ويوضح أن الأداءات الغنائية، لا سيما الشبابية الراهنة، في وضع مأساوي ليس فقط هنا من جانب عدم إنتاج الأغنية كصناعة اللحن والاشتغال بتفاصيلها كشغل الموسيقى والأداءات، ولكن لجفاف النص الشعري في مرحلة ما، وتجاهل ما يضمن حضور الأغنية في سياق الذائقة الفنية، وجهل الإعلام وكافة المؤسسات الرسمية بأهمية الفن للحضارة الإنسانية، أضِف لذلك قصور وعي أغلب من يؤدون الأغاني بالأغاني الموجودة لفنانين كان لهم سبق راقٍ باستيعاب النص الشعري الغنائي، وفي صناعة اللحن وجماليات الأداء، وفق رؤى موسيقية، رغم اهتمام هؤلاء الشباب بتأدية تلك الأغاني الأصيلة، إلا أن عشوائيتهم الناتجة من أميّتهم بعلوم الجمال، نتج عنها مستوى ضعيف من الأداء، وشدد بإلحاح مستمر في كل المحافل على ضرورة إنشاء أكاديمية متكاملة لعلوم الجمال تعنى بتخريج مواكب تترى من الأجيال الشابة تمتلك معرفة ومهارة بالعلوم الفنية الأكاديمية في مختلف مجالات الفنون السمعية والبصرية، بحيث يمكن من خلالهم إحداث نهضة حقيقية في مختلف مجالات الفن، وبما يمكّن المختصين والمشتغلين في تلك المجالات من توثيق الموروث الفني اليمني العريق، بالتالي من الأهمية عمل الدراسات والبحوث العلمية التي تعنى بتطوير الفنون اليمنية كافة.
استكمالًا للمحاكاة
بين فترة وأخرى تحظى محافظة تعز بمحافظ مثقف وأديب وشاعر كما حصل في فترة محافظها السابق الأستاذ حمود خالد الصوفي، وهذا عزز من هدفها التنويري، وموقفها التوعوي، ومركزها الثقافي، وحتى في فترات أكثر خشونة ومليئة بالصراعات والحروب والحصار كما هو حالها الراهن، لم تنكسر تعز فنيًا غنائيًا، وبالتالي لا يمكن تجاهل تعز الفن والأغنية وتعز العاطفة والوطنية، وتعز التراب والزرع والمواسم والحصاد، كما لا يمكن إغفال سلسلة الهموم الوطنية التي تحملت تعز مسؤولية تبنيها وفلسفتها ضمن الهموم الوطنية التراكمية، بهذه القناعة قدمت تعز نفسها أشبه بمحامي دفاع وجمهور وشارع سياسي ووسط ثقافي، وصاغت مختلف بيانات ثورات الحرية والتنوير، والنشيد الوطني اليمني شمالًا وجنوبًا.