صنعاء 19C امطار خفيفة

ناجي العلي.. الوطن والفن في الممارسة السياسية(١ ـ ٣)

ناجي العلي.. الوطن والفن في الممارسة السياسية(١ ـ ٣)
ناجي العلي( منصات التواصل)

1- سنوات التكوين:

 
كان في حياته قضية خلافية، أثار من الأسئلة والقضايا، والرؤى، والمواقف، ما جعل أطرافًا عدة تقف منه على الضد، وفي ميلاده واستشهاده ومكان قبره كذلك أثار من الخلافات والمواقف الكثير(*).
 
كتابات كثيرة بكته ونعت رحيله المبكر باستشهاده النبيل، جميعها أجمعت على الفنان فيه، وعلى الرؤية والموقف الإنساني في سلوكه وتصرفاته، على أنها جميعًا لم تتفق على تحديد سنة ميلاده، بعضهم يدونها عائدة إلى العام 1936م، وأخرى إلى 1937م، وثالثة إلى 1938م.
 
ولناجي ثلاث ولادات، الأولى: في قرية الشجرة في فلسطين قبل النكبة بعشر سنوات، والثانية بميلاده طفلًا بعمر عشر سنوات بالتمام والكمال، مع ميلاد حنظلة في 13 تموز/ يوليو 1969م، والميلاد الثالث في 22 يونيو 1987م، يوم اغتياله الأول قبل استشهاده، ويوم 29 أغسطس 1987م، يوم اغتياله الثاني شهيدًا برصاصات الغدر الأول الذي استحال إلى ذكرى ميلاد أسطورية جديدة، أعيد ترسيمها باعتبارها يوم ميلاد آخر على عكس ما أراده القتلة ومن يقفون خلفهم.
 
سنوات تكوينه -بعد العاشرة- ارتبطت بالنكبة الفلسطينية/ العربية بالاحتلال الصهيوني. ومنذ ذلك الحين 1948م، توحد بالمخيم، صار المخيم هو العنوان، والمكان، والقضية، والهوية البديلة المؤقتة، فكثيرًا ما يختصر الفلسطيني بالمخيم، والخيمة، واللجوء، والمنفى؛ والشتات، ولعل المخيم أكثرها رمزية، ودلالة للتعبير عن الحالة الفلسطينية، وعن المأساة الفلسطينية، أكثرها التصاقًا في الإشارة إلى معنى التشريد، والاجتياح، والشتات والقتل، والاغتيال، واغتصاب الأرض، حتى صار المخيم -واللاجئ- يشير مباشرة إلى الفلسطيني، بالقدر الذي يشير إلى معنى الثورة، والحرية، وعدم القبول بالأمر الواقع الذي قد يذهب ضحيته وطن كامل -كما يتراءى أمام أعيننا- بدءًا من قرار التقسيم إلى دولتين، 49% و51%، وإلى 22% لم يقبل بها الإسرائيلي، وصولًا إلى دولة لا ندري ما هي ملامحها؟ وأين تبدأ؟ وما هي حدودها؟ وأين تنتهي؟ ولا ندري المفاوض الفلسطيني على كم تفاوض بعد ذلك مما تبقى؟ فهي حتى الآن ماتزال محكومة بحدود المخيم واللاجئين، وفي أحسن الأحوال إلى باب الحكم الذاتي الذي يدخلك أبدًا إلى الباب الكبير للمستوطنات كما رسمها ناجي العلي في إحدى رسوماته الكاريكاتيرية المعبرة.
 
لم يكمل دراسته وتعليمه، سوى إلى السنوات الأولى من التعليم العام، على أنه ثابر وتابع ذاتيًا تعلمه الذاتي الخاص حتى أصبح بعد ذلك مدرسًا أو معلمًا لفن الرسم في الكلية الجعفرية في مدينة صور الجنوبية، في سني طفولته المتأخرة وبداية المراهقة السياسية وبداية الشباب تعلق بالمسرح، والنص المسرحي في صورته الأولية، ودخل أجواء المسرح، حبًا، وتمثيلًا، وقادته الصدفة البحتة إلى فن الكاريكاتير والعمل الصحفي، وفي ذلك يقول: "في البداية كان همي أن أعبر عن ذاتي بالرسم، وكان همي أن يكون الفن التشكيلي وسيلة وصولي إلى مستوى هذا التعبير، واكتشفت فيما بعد أنني أستجيب أكثر للرسم الكاريكاتيري، أو بتعبير آخر توصلت إلى قناعة مفادها: أن أحفر مجرى لحياتي من خلال رسم الكاريكاتير، ووجدت فيه سلاحي الجيد"(1).
من أسرة فقيرة جاء، لها تاريخ في المقاومة يمتد إلى تاريخ الثورة العربية الأولى في فلسطين. ومن قلب مخيم عين الحلوة بدأ وعيه السياسي يتشكل، عين الحلوة كانت رمزًا للنكبة، ومع المخيم اكتمل ذلك الوعي السياسي على حقيقة وفكرة مقاومة الاحتلال، والاستبداد والتخلف، وفي السياق والمقام عينه، رسم صورته الأولى كفدائي، ومقاوم في صورة طفل في العاشرة يقول ناجي محددًا اسمه وهويته "الاسم حنظلة -اسم الأب مش ضروري -اسم الأم: نكبة -تاريخ الولادة: عام النكسة -نمرة قدمك: ما بعرف لأني حافي -جنسيتك: أنا فلسطيني.. مش أردني.. مش كويتي.. مش لبناني.. مش مصري.. مش حدا.. باختصار معيش هوية ولا ناوي أتجنس.. محسوبك إنسان عربي وبس". وهي المفردات التي حددت هوية ناجي العلي باعتباره طفلًا فلسطينيًا/ عربيًا، مقاومًا من أجل حق العودة إلى وطنه، رافضًا الشتات والمخيم، ذاكرته الأولى تشكلت في قلب النكبة والمخيم وهو طفل في العاشرة، وعند سن العاشرة أُوقف عمر حنظلة ولم يتجاوزه حتى استشهاده النبيل، واختيار سن العاشرة تحديدًا، له معنى ودلالة كبيران، معنىً حياتيٌّ، وعمري، فالعاشرة هي سن قادرة على الاحتفاظ بذاكرة ما كان، وهي كذلك ذاكرة لا تنسى ما بعدها من سنين لاحقة، وهو عمر طفولي تأسسي لما بعده، ومن هنا في تقديري معنى اختيار العاشرة سنة بداية، سنة التأسيس، واعتبارها جزءًا من حالة مقاومة لا تنتهي إلا بانتفاء صورة المخيم واللجوء والشتات.. حالة بطولية، وحول هذا المعنى وهذه الفكرة يقول ناجي العلي: "في مثل هذا السن خرجت من فلسطين، وعشت تجربة المخيم، حيث بدأ وعيي السياسي والحياتي يتفتح على القهر والفقر، والتوق إلى الحرية والعودة إلى الوطن"، إلى أن يقول: رسمت هذا الصبي -يقصد حنظلة- وجعلته بطلًا في لوحتي يوميًا، ليبقى بمثابة ذاكرة دائمة لي، تحذرني من الانجراف في آلية المجتمع الاستهلاكي، فأخسر روحي.. كنت أشعر أن هذا الطفل يتميز بتقاسيم وسمات تحفظ روحي، وتقوي أواصر ارتباطي وعواطفي مع الجماهير التي كنت أعشقها، وأشعر أني مرتبط بها.. لذلك فقد اعتدت أن أرسم تلك الشخصية صباح كل يوم حتى أصون روحي من التشرذم في تلك الصحراء (...) خفت أن أتوه، أن تجرفني الأمواج بعيدًا عن مربط فرسي.. فلسطين".
 
لم يكمل ناجي العلي دراسته، وتعليمه مثل الكثيرين من أقرانه من الأطفال الفلسطينيين ، واعتمد التثقيف الذاتي من جامعة الحياة، آخذًا المعاني والأفكار من كتاب الحياة الملقى على الطرقات، ونهل من رفوف المكتبات، ودخل إلى المعرفة والفكر والثقافة بقوة وشغف، وذلك ما عمق خياره الثقافي والفكري ذا الصلة العميقة بالناس، وحياتهم ومصالحهم المادية المباشرة، والهموم الكلية الإنسانية، لم يأتِ ناجي للفن والرسم، والصحافة من الوسط الأكاديمي، والثقافي المجرد.. دخل إلى كل ذلك من قلب المخيم، ومن قعره الغائر في أعماق حضور الناس، والمخيم هنا ليس مستوىً واحدًا، ففيه كل ذلك التنوع الذي تزخر به الحياة في كل مكان.
 
من المخيم خرج ناجي العلي وقبله غسان كنفاني، كما خرج أصحاب الكروش المتدلية من الخلف، حسب أحد تصويراته الكاريكاتيرية، وكذلك خرج منه قتلة ناجي نفسه. المخيم عالم فسيح واسع متنوع، مليء بالمفارقات والمتناقضات، على أن السمة الجوهرية له الثورة والمقاومة، وكانتا الحرية والعودة، هما عنوانه الكبير.
 
بقي حنظلة الطفل دون وجه، وظل عمره كله يبحث عن وجهه، يبحث عن فلسطين.. فلسطين هي ذلك الوجه الغائب، أو الضائع، وقد تعمد ناجي العلي إخفاءه في اللوحة، وجعله بدون وجه، وكأنه لا يريد أن يرى من حوله والعالم بدون فلسطين، وحين يكتمل الوجه -فلسطين- يعود الوجه إلى اللوحة، الجميع يتكلم عن فلسطين القضية والمأساة، وهو السؤال الذي يتجول في مدارات السياسة إلى عناوين متعددة، ومع ذلك بقي وجه حنظلة في الصورة غير مرئيٍّ، غائبًا، ضائعًا، تقرأ وتحدد خطوط الطول والعرض الفلسطيني كما تشاء في غياب الوجه الذي تحول ضمن تحولات معادلة الزمن في السياسة الجارية من قضية صراع فلسطيني وعربي/ إسرائيلي، إلى صراع فلسطيني/ إسرائيلي، إلى قضية نزاع فلسطيني/ إسرائيلي، إلى قضية مخيمات، ومفاوضات وتسويات أضاعت ما تبقى من صورة الوجه الفلسطيني في الذاكرة، وصولًا إلى تحولها إلى قضية معابر، وكهرباء ومياه، ورفع حصار عن غزة بعد الانشقاق الفلسطيني الفلسطيني، إلى ضفة وغزة. كانت الخيمة والمخيم في حياة ناجي العلي رمزًا للقضية الفلسطينية، والثورة، والمقاومة، والخيمة في حياته وفنه، بعد ذلك عنت له الكثير، أليس أعظم دلالة على هذا المعنى الذي حمله ناجي في نفسه للمجتمع وصورته في نفسه، أن طلب في وصيته دفن جثمانه في مخيم عين الحلوة، وليس في لندن، بعد أن أصبح متعذرًا دفن جثمانه في قرية الشجرة في فلسطين.
 
يكفي الإشارة هنا إلى أن أول رسمة ولوحة تنشر له وأدخلته إلى الحياة الفنية وإلى فن الكاريكاتير، كانت لوحته "خيمة على هيئة بركان"، وهي اللوحة الأولى في حياته، بعد سلسلة لوحات تركها على جدران الشوارع، والمساكن، والبيوت في المخيم، اللوحة التي نشرها غسان كنفاني في مجلة "الحرية" العدد 88، العام 1961م، السنة الثانية، وقال عنها غسان كنفاني معلقًا عليها: "صديقنا الفنان ناجي لا يجد خيرًا من الكاريكاتير ليعبر عما يرتجف في نفسه، وقد لا يعلم -ناجي نفسه- أن الحدة التي اتسمت بها خطوطه، وأن قساوة اللون الراعبة، وأن الانصباب في موضوع معين، يدل على كل ما يجيش في صدره بشكل أكثر من كافٍ(...)، وهو يحمل إلينا قصة فلسطين، لا ما حدث فيها، ولكن ما يجب أن يحدث، لكي يعود الذين شردوا من ديارهم إلى خير الأرض والوطن".
 
وهي أول رسمة لناجي أدخلته عالم فن الكاريكاتير، رسمة تصور خيمة على هيئة بركان، بعدها بدأ ناجي يوقع رسوماته الكاريكاتيرية تحت اسم ناجي، وكانت في الفترة 1963م، ثم اختار في فترة لاحقة عنوان الصليب كرمز للفداء، والافتداء والتضحية، مع اسم ناجي أو بدونه، وبعد هزيمة حزيران 1967م تحديدًا منذ العام 1969م، اختار ناجي رمزه حنظلة/ الطفل الذي رافقه حتى لحظة استشهاده.
 
يمكن القول: إنه مع حنظلة الطفل في اللوحة اكتملت بصورة نهائية صورة ناجي العلي الفنان والمثقف، ليس أي مثقف وكيفما اتفق، بل ذلكم المثقف العضوي النقدي الصارم والصادق الذي يقول ما لديه دفعة واحدة، دون تقسيط، ونقطة على السطر، تلك سجيته، وذلك طبعه، ولا يستطيع لهما تبديلًا، إنها الحالة أو الشخصية التي تبلورت ملامحها، ونضجت طيلة سنوات تكوينه الأولى (سنوات النكبة، والمخيم، واللجوء، والمنفى، والشتات، والاجتياح، والاغتيال)، سنوات الذاكرة والذكرى والمأساة الممتدة في الزمن العربي الفلسطيني، الذاكرة التي تشكلت معجونة بتراث الشعب الفلسطيني، وفنونه وآدابه، وحكاياته، وأشعاره، مواويله وأزجاله، وأمثاله التي تمفصلت وتوحدت في كيان ذاكرة ثقافية وروحية مقاومة، على خلفية ذخيرة سيكولوجية واجتماعية وتاريخية، هي ما يحمل روح وراية المقاومة في فلسطين وكل المنطقة العربية. فالتراب الفلسطيني أو كل التراب الفلسطيني، حسب تعبير ناجي العلي، سيبقى فلسطينيًا، وقضية عربية أبدًا.
 
الهوامش:
 
* الاقتباسات والاستشهادات غير الموثقة حيثما وجدت جميعها مواد مأخوذة من الإنترنت.
(١) ناجي العلي، نقلًا عن كتاب "ناجي العلي.. الشاهد والشهيد"، ص31، منشورات دائرة الثقافة والإعلام -الشارقة، تقديم وإعداد: د. عمر عبدالعزيز، 1997م.

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً