صنعاء 19C امطار خفيفة

في الذكرى الـ30 لوفاة محمد عبده نعمان أمين عام الجبهة الوطنية المتحدة ورئيس حزب التجمع

في الذكرى الـ30 لوفاة محمد عبده نعمان أمين عام الجبهة الوطنية المتحدة ورئيس حزب التجمع
محمد عبده نعمان( الصورة من إرشيف الكاتب)

الذي سيُهمل في سيرة الفقيد محمد عبده نعمان ربما ثمانية عشر عامًا بين مولده في قرية ريفية اسمها النجد في منطقة الأحكوم التابعة لمركز الحجرية التابع للواء تعز في المملكة المتوكلية اليمنية، في العام 1930، وبين حدثين كبيرين عاش تداعياتهما وهو شاب في عدن التي كان أنهى فيها تعليمه الأساسي، وهما فشل حركة 48 الدستورية، ونكبة فلسطين الأولى. وبين هذين الحدثين يمكن معاينة حدث تكويني أصغر في حياته، سيتلخص في قيادته لإضراب طلابي في إحدى المدارس الحكومية في عدن، في العام 1946، بمناسبة مرور عام على إنشاء جامعة الدول العربية، كما يروي ذلك الأستاذ محمد سالم باسندوة، الذي كان معه في نفس المدرسة، ويتأخر عنه بخمسة فصول.

 
أما أول الحدثين كما أشرنا هو فشل حركة 1948 الدستورية ضد نظام الإمامة بتلك الملابسات المتعددة، التي أشبعت قراءة وفحصًا، وثانيهما نكبة فلسطين الكبرى وهزيمة الجيوش العربية، والتي مهدت لتحولات كبرى في المنطقة تاليًا.
ما يهمنا في هذا الاستدراج السيروي الباكر، أن الشاب الممتلئ حيوية ونباهة، بدأ يعي شيئًا مختلفًا، وهو أن الصوت المنكسر في 48 كان هناك من هو قادر على بعثه من جديد وبوسائل توصيل أحدث وأشمل، وأعني مشروع الشيخ عبدالله علي الحكيمي وصحيفة "السلام" التي تتلمذ على صفحاتها التثويرية والتنويرية عشرات الشبان، ومنهم محمد عبده نعمان، الذي ينتمي لذات منطقة الشيخ الحكيمي، والذي مثَّل في ذات الوقت بمنزعه الصوفي صوتًا عروبيًا عالي النبرة في دعم قضايا الأمة، وعلى رأسها القضية الفلسطينية.
 
ابتعاث محمد عبده نعمان للدراسة في السودان في العام 1949، كان بمثابة الخطوة الأوسع في رحلة الرجل الطويلة والثرية، حين كان السودان وقتها قبلة حقيقية للتعليم العصري والتكوين المعرفي والسياسي؛ لما لجامعته وكلياته ومعاهده، وحتى أحزابه الليبرالية واليسارية والدينية، من إسهام عصري في الحياة وتكوين طلاب العلم.
عودته إلى عدن أواخر العام 1951، مُجازًا ومؤهلًا من معهد عالٍ لإعداد المعلمين في السودان، لم يمنعه في بداية الأمر من العمل في مشروع سد باتيس في أبين، حين كان نائب السلطنة الفضلية يستقطب الشبان لتحديث إدارات السلطنة وعصرنتها، قبل أن ينخرط في التدريس المتعدد في مدارس المستعمرة عدن، وفي مدينة التواهي تحديدًا، حيث أسس فيها ناديًا رياضيًا أطلق عليه اسم "نادي شباب التواهي"، وكان فيه لاعبًا مرموقًا، وفيه بدأ أول التشبيكات التنظيمية التي سيراكم عليها خبراته في السنوات التالية، وتزامن ذلك مع كوة الضوء التي فتحتها ثورة يوليو في جدار العتمة في المنطقة.
نسج الكثير من العلاقات بمعلمي المستعمرة الإنجليزية، بذات طريقة تشبيكه الرياضي، ووصل إلى موقع الأمين العام لنقابة المعلمين، وهو شاب في الرابعة والعشرين من العمر، ومع شروع سلطات الاحتلال الإنجليزي في إصدار قانون جديد لانتخابات المجلس التشريعي، في 1955، فارضة أربعة مقاعد فقط للتنافس الانتخابي بين مواطني ومولدي المدينة، دون غيرهم من أبناء داخل اليمن، أو ما كان يطلق عليهم شعبيًا سكان مملكة الإمام، أو أبناء المحميات الغربية والشرقية، أسهم في تشكيل الجبهة الوطنية المتحدة من مجموع النقابات المهنية، التي انتخبته أمينًا عامًا للجبهة، والتي دعت مباشرة إلى مقاطعة الانتخابات بسبب تهميشها للمواطنين.
محمد عبده نعمان في فترة شبابه( منصات التواصل)
خمسة من قيادة الجبهة الوطنية، ويشغلون أمناء نقابات "الطيران والملح والقوات المسلحة والميناء والمواصلات"، لم يكونوا مشمولين بهذا الاستبعاد، كونهم مواطنين عدنيين، ومع ذلك عملوا على توجيه وتحريض أعضاء نقاباتهم على مقاطعة الانتخابات، التي نجحت بامتياز في إفشال الانتخابات، حسب اعتراف سلطة الاحتلال.
وحين غدا للجبهة الوطنية المتحدة قاعدتها الجماهيرية من منتسبي اليمن الطبيعية (المحميات والمملكة المتوكلية ومدينة عدن أيضًا) الذين ينتمون للنقابات، التي صارت في مارس 56 تشكل قاعدة مؤتمر عدن للنقابات، امتلكت سلاح التأثير الشعبي الأقوى في الشارع، لهذا حينما دعت إلى الإضرابات العمالية، ومن ثم دخولها كطرف مفاوض وقوي مع أرباب العمل والمؤسسات، بدأت السلطات الاستعمارية بتوصيفها كجهة سياسية معادية، خصوصًا بعدما بدأت الجبهة بطرح شعار "عدن يمنية" ردًا على الشعارات الانعزالية التي كانت ترفعها "الجمعية العدنية"، منتجة ومروجة شعار "عدن للعدنيين"، أو رابطة أبناء الجنوب العربي التي كانت ترى في مدينة عدن جزءًا أصيلًا من الجنوب العربي، والذي تنادي به كدولة مستقلة خارج حدود اليمن الطبيعية.
وحينما قامت السلطات الاستعمارية، في أبريل من العام 56، بطرد محمد عبده نعمان، لم تجد أقوى من مبرر يمنيته، وأنه ليس مواطنًا عدنيًا ولا جنوبيًا، وقام بإزعاجها من خلال مشاركته في النشاط السياسي، وتعارض ذلك مع عمله كموظف عام، ونشاطه في مقاطعة الانتخابات وتوزيع المنشورات وجمع تبرعات للجبهة الوطنية، كما قال الأستاذ عبده علي عثمان، في تحليله لرسالة حاكم عدن السير هيكن بوتوم.
إقامته الأولى في مناطق السلطنة العبدلية في دار سعد والرباط والحوطة، والتي تقع تحت التأثير السياسي للرابطة بحكم انتماء السلطان علي عبدالكريم العبدلي، إليها، والمعروف أيضًا بتوجهه العروبي والقومي، جعله قريبًا جدًا ومؤثرًا في عمل الجبهة، لكنه ظل على خلافاته العميقة مع حزب الرابطة التي ابتدأت باكرًا حين خالفت الرابطة اتفاق القوى السياسية بمقاطعة انتخابات المجلس التشريعي، ونزلت بمرشحها عبدالرحمن جرجرة صاحب جريدة "النهضة" ذي الأصول العدنية، وتاليًا رفضها القبول بيمنية الجنوب وبالوحدة اليمنية، التي كانت أحد مشغلات الفكر السياسي عند الفتى الشاب ورفاقه في الجبهة، فاعتبر تاليًا محمد عبده نعمان "رائد الوعي الوحدوي اليمني في تاريخ الحركة الوطنية اليمنية المعاصرة"، كما يذهب إلى ذلك الأستاذ عمر الجاوي.
تحت تأثير المد القومي وسطوع نجم عبدالناصر وعلو كعب حركات التحرر الوطني في المنطقة، في مرحلة ما بعد حرب السويس، بدأت تسيطر عليه فكرة الكفاح المسلح لإخراج المستعمر من عدن وبقية حواضر وقرى الجنوب، فانتقل إلى تعز عاصمة دولة الإمام أحمد، الذي كان لم يزل يعاني من تداعيات اهتزاز بيت الحكم بُعيد الحركة الانقلابية لأخويه عبدالله والعباس، في مارس العام 1955 (أو ما عُرف بحركة الجيش وقائده الثلايا)، فلم تجد دعوته صدى في عقل الإمام، ولا قلبه، حين طلب منه الدعم لمجاميع فدائية مناهضة للاستعمار من أبناء المحميات، أو من سكان عدن نفسها، وبدلًا عن ذلك سمح له بعد عامين في تحرير وتقديم برنامج إذاعي موجه لأبناء الجنوب، وكان اسمه "ركن الجنوب اليمني المحتل"، من إذاعة صنعاء، بالتنسيق مع عبدالله عبدالرزاق باذيب، الذي استقر في تعز في ذات العام، وافتتح أول مكتب لتحرير الجنوب اليمني المحتل، بعد أن فك ارتباطه مع حزب الرابطة، الذي كان يمتلك هو الآخر مكتبًا تنسيقيًا في تعز.
يقول الأستاذ عمر الجاوي: "ومنذ العام 1959 حاول -أي محمد عبده نعمان- مع زميله عبدالله باذيب، توحيد مركزيهما في عدة لقاءات حوار بدار الضيافة في تعز، انتهت جميعها بالفشل رغم طموح الجميع إلى الوصول إلى نتيجة، ولعل من أسباب الفشل أن نعمان لا يحرم أي نوع من الكفاح، ولا يرى مانعًا في التعامل مع أية جهة مادام الأمر يتعلق بتحرير الجنوب اليمني المحتل، بينما كان الفقيد باذيب يضع شروطًا للتعامل، ولا يوافق على حمل السلاح في تلك الظروف، ولا يتساهل في موضوع التباينات في الهدف السياسي".
محمد عبده نعمان  ورفيقه القريب أحمد قاسم دماج
لم تنطفئ جذوة حماسه حتى وهو يرى مكوِّن "مؤتمر عدن العمالي" بقيادة عبدالله الأصنج، يسحب البساط من تحت أقدام الجبهة الوطنية المتحدة، ويقدم نفسه كممثل أوحد للنقابات والمكونات العمالية، التي كان قام نعمان بتوحيد صوتها أولًا في مقاطعة انتخابات المجلس التشريعي وإفشالها، وتاليًا في الإضرابات العمالية والمطالبة بحقوق العمال، فعمل على تشكيل الاتحاد الشعبي عام 1958، ثم الاتحاد القومي 1959، والتجمع القومي 1960، وتجمع الهيئات الوطنية الشعبية 1961، قبل أن يعود مرة أخرى في العام 1963، ويكون "الجبهة الوطنية المتحدة لتحرير الجنوب اليمني المحتل"، من جملة المقاتلين والفدائيين الذين استقطبهم على مدى سنوات خمس من عدن والمحميات ومناطق مملكة الإمام في الشمال اليمني، والذين كان يقودهم عسكريًا في محور حريب/ بيحان، لمطاردة فلول الملكية ومرتزقة الاستعمار.
 
ختامًا
 
في مقاربتنا للسيرة الباكرة لمحمد عبده نعمان الحكيمي، وفي حدود ثلث قرن (1930ـ 1963)، استوقفنا شيء مهم، وهو أن المنزع السياسي له لم يكن تحت تأثير وضغط أي من الاتجاهات القومية (بعث وقوميين عرب) أو الاتجاهات اليسارية الناشطة وقتها، ولا تمثيلًا أيديولوجيًا صارمًا لها، بل كان منزعًا وطنيًا صرفًا، ذا هدف واحد، وهو وحدة الجغرافية والهوية في مواجهة حالة استعمارية، لا يمكن التخلص منها إلا بالكفاح المسلح، لهذا لم يكن يرى مانعًا في التعامل مع أية جهة كانت حزبًا أو مسؤولًا أو شيخًا أو نقابة أو أميرًا هاربًا، مادام الأمر يتعلق بتحرير الجنوب اليمني المحتل، كما يذهب إلى ذلك الفقيد الجاوي.
وإن انخراطه النشط في جريدة "البعث"، لصاحبها النقابي الراحل محمد سالم علي، التي صارت وقتها لسان حال الجبهة الوطنية المتحدة، لم يكن له علاقة من قريب أو بعيد بحزب البعث العربي الاشتراكي، كما يعتقد البعض، وإنما ظهرت كصحيفة سياسية أسبوعية تعبِّر عن وجهة نظر وسياسة الجبهة الوطنية، وصارت مشعلًا وطنيًا وإضافة جديدة إلى الصحافة الوطنية التي عززت من حضورها حالة التحولات السياسية الجديدة في اليمن والمنطقة عمومًا.
وعلى عكس السير التكوينية لكثير من رموز الحركة الوطنية اليمنية، سيلحظ المتابع أن محمد عبده نعمان ركز كل اهتمامه على العمل في أوساط الناس "الجماهير"، ومحتشدًا بها بدءًا من إنشائه ناديًا رياضيًا، هو "نادي شباب التواهي"، المعروف اليوم بنادي الميناء الرياضي، والذي كان بالإضافة إلى نشاطه الرياضي، حاضنة ثقافية وسياسية لعشرات الشبان المهملين، المحسوبين على شمال البلاد والمحميات، وصولًا إلى العمل في أوساط المعلمين والعمال في ذروة التحشيد لمقاطعة الانتخابات وتشكيل الجبهة الوطنية، ولم تنتهِ بقيادته للمجاميع المسلحة من كل أرجاء البلاد، لمنازلة فلول الملكيين ومرتزقة الاستعمار في حريب وبيحان، في الأشهر الأولى لثورة سبتمبر.
من المحطات المهمة في حياة الراحل محمد عبده نعمان، توليه وزارة الإعلام بعد نوفمبر 1967، وكان أحد القادة البارزين للمقاومة الشعبية لفك الحصار عن العاصمة صنعاء، مع رفيقه البارز عمر الجاوي، والذي سيتلازم معه بعد قرابة ربع قرن (يناير 1990) بتأسيس حزب التجمع الوحدوي اليمني، وتولى رئاسته، كأول حزب سياسي يعلن عن نفسه قبل قيام دولة الوحدة بأشهر قليلة.
توفي عن 65 عامًا، في 23 يونيو 1995.

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً