صنعاء 19C امطار خفيفة

ألبومات آدم الثاني... قراءة أولية في الفضاءات الموضوعية للنص(1-2)

2025-05-07
ألبومات آدم الثاني... قراءة أولية في الفضاءات الموضوعية للنص(1-2)

آدم الثاني -أنطولوجيا شعرية لظل يعيد تعريف نفسه

 
"ألبومات آدم الثاني"، ديوان جديد للشاعر والروائي والمؤرخ الأدبي اليمني علوان مهدي الجيلاني. علوان الثاني أيضًا، فمثلما يسعى النص بأقسامه الثلاثة (شعراء -شعر -قصائد) إلى تقديم تعريف جديد للوجود الإنساني وصيروراته من خلال النص الأدبي التاريخي والمعاصر، فإن النص نفسه يقدم لنا علوانًا جيلانيًا جديدًا مغايرًا لأعماله الشعرية الإبداعية السابقة في "راتب الألفة" و"الوردة تفتح سرتها" و"أغانٍ في مقامات البعد"، وغيرها من أعماله السابقة نصًا وأسلوبًا!
 
وقبل الخوض في فضاءات وموضوعات الديوان الشعرية وطرائقه الأسلوبية والبنائية التي تنتمي لقصيدة النثر المعاصرة في أحدث تشكلاتها، إلا أنه بصورة عامة يعكس حالة من القلق والتفاعل والاضطراب من ومع تفاعلات واصطراعات الأدب الرقمي المعاصر -إن جاز هذا التوصيف- هذا الأدب الذي بدأ يتشكل عبر متفاعلات إبداعية في الفضاءات التواصلية الجديدة غير المحكومة بمجمل التحولات الحضارية والتاريخية المتراكمة الملازمة لصيرورة النص الشعري، بقدر ما هو إبداع مرتبط ومتفاعل ومتناغم مع المواضعات الرقمية التي تعمل اليوم بصورة منفصلة عن التراكم على إعادة تعريف الإنسان والهوية والحياة تعريفًا مغلقًا ومحكومًا بالعناصر والمهيمنات القائمة والمستقبلية فقط، بعيدًا عن التراكم الطويل!
 
في ما قبل ذلك، فإن الجيلاني، وهو الشاعر من جيل التسعينيات، وصاحب أطروحة المجايلات في الشعر اليمني الحديث، يحاول بهذا الديوان أن يواكب الأدب الرقمي وتطوراته المستقبلية عبر مد تجربته الشعرية إلى هذا الفضاء، ودون انقطاع عن الجذر التاريخي للصيرورات الشعرية في مختلف الأزمنة، بخاصة وأنه من المشتغلين على تاريخ الأدب اليمني.
ولأننا اليوم أمام الإنسان الروبوت والذكاء الصناعي الذي بدأ يتعامل مع إنتاج الإبداع الذهني، وينافس الإنسان ذهنيًا وإبداعيًا، فإن الجيلاني، وبحكم أنه كغيره من الكتاب غير مقتنع أو راضٍ بأي تأثير لهذه التقنية في إنتاج النص، ولكن ولأنها أصبحت تشكل مساحة جديدة تتشكل فوقها مقاربات ومقارنات وتفاعلات تخلق في مجملها فضاءات ذهنية مؤطرة لوعي الكتاب المعاصرين وأولوياتهم عند كتابتهم وإنتاجهم النص الإبداعي، وبالتالي يدرك الجيلاني وغيره من هؤلاء الكتاب، عدم القدرة على مناهضة تفاعلات هذه الاصطراعات المعرفية والمهيمنات التواصلية القوية في هذه المساحات التقنية وأثر مثاقفاتها.
لذلك فإنه -أي الجيلاني- وفي خضم هذه التعقيدات، يسعى إلى إعادة تعريف الهوية الثقافية والجمالية للإنسان منذ وجوده الأول، بصورة تختلف عن الصورة التي قدمها الوعي المعرفي التاريخي، جاعلًا من الشاعر (آدم الثاني) والشعر قطبي معادلته الجمالية في سياق إعادة إنتاج تعريف هذا الإنسان وهويته الجمالية، لتجد مكانها في معترك التفاعلات والتحولات الفارقة والعميقة في الواقع الرقمي المعاصر.
 
ومن هذا الفضاء تولدت سردية أو بنية العنونة للديوان: آدم الثاني، بمعنى أن للإنسان صورة جمالية وسلوكية مختلفة عن نموذجه التاريخي. هذه الصورة بذرتها الأولى هي الشاعر -آدم الثاني- الذي يقدمه الجيلاني بصورة ضبابية لم تتوضح فيها طبيعة هل آدم الثاني الشاعر هو ظل موازٍ لآدم الأول، أم أنه في سياق التعريف بديلًا له معرفيًا، أقصد لاتناسليًا. والأرجح أن الفكرة الثانية هي المهيمنة في الديوان. هذه الصورة المركزية للشاعر -آدم الثاني- التي يقدمها الجيلاني في ديوانه، لم تأتِ من أفق حالة مهاجسات تهومية شاعرية، بل تستند لعمق معرفي تاريخي ينطلق من كون النص الأدبي أقدم تعبير بشري على الأرض، إن استثنينا الحفر والرسم، فملحمة جلجامش خير دليل، فهي سردًا وإيقاعًا وتخييلًا ملحميًا... الخ، نص أدبي! هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فقد اتكأ الجيلاني على الشعر في معادلته هذه، باعتبار أن النص الشعري وموضوعاته عبر التاريخ، ورغم أنه مرتبط بفضاءات السياسي والمجتمعي والاقتصادي، إلا أنه في جوهر مواضعاته بقي أكثر اتصالًا بالثقافي، هذا الحقل الذي ارتبط به الشعر وثيقًا، هو من يعكس فنون وجماليات الإنسان عبر التاريخ، ووحده ظل بحكم عمقه أقوى الحقول في مقاومة الطمر والاضطهاد في صيرورات الوعي التاريخي الذي كانت تنتجه المركزيات التاريخية السياسية أو الدينية!
وبالتالي فإن الجيلاني، وإن كان في ديوانه هذا يكتب نصًا شعريًا موضوعه هو الشعر ذاته، فإن هذه المغامرة والجرأة مدروسة ومحسوبهة بعناية وفقًا لتأسيسها على العناصر والمرتكزات السابقة!
 

توسع أفق أو ضبابية في الموضوع

 
واضح من خلال التحليق في فضاءات الديوان، أن الجيلاني يعتد بنظرية هايدغر، التي تعتبر العلاقة بين الشعر والفلسفة علاقة روح ومادة، وأن كلًا منهما ضرورة للآخر. وهذه نظرية غاية في العمق، لأنه في كل الثقافات البشرية لو رجعنا للملاحم الشعرية الإنسانية الكبرى، لوجدنا أن هذه الشعرية هي سؤال فلسفي عن الوجود والعدم حتى قبل ظهور الفلسفة، كما في جلجامش. فالنص هو سؤال عن الوجود والعدم في سياق جمالي وبرؤية شعرية.. لذا فالشاعر بلا حس رؤيوي فلسفي تأملي، يعد حكاءً لا أكثر!
ضمن هذه العلائق المعرفية والجمالية التي هيمنت على مخيال الجيلاني، يثور السؤال الملح عن موضوع أو قضايا أو فكرة الديوان بتبويباته الثلاثة (شعراء -شعر -نصوص)، فنجد معادلة تواز بتناص وجودي (نبوءة -منهج -صيرورة). إن هذه الفضاءات الموضوعية وفق الدارج تنتظم في سياقات العلوم النقديه الأدبية، أو سياقات علم البحث التاريخي المعرفي، لأن تكون فضاءات موضوعية للنص الشعري ذاته، فوظيفة الشعر هي تقديم رؤية إنسانية جمالية فنية لمجمل التصورات والقضايا التي يحاكيها الشاعر، لكن الجيلاني قد جعل من قضية وفضاءات ديوانه الموضوعية هي الشعر والشاعر ذاته، فهل هو من باب الترف غير المدروس أن من باب "تداويت من ليلى بليلى عن الهوى = كما يتداوى شارب الخمر بالخمرِ".
 
عند الإمساك بتلابيب النص، وهصر خواصر سياقاته الترميزية، يتضح في المحصلة أنه لا ذا ولا ذاك.. إنما الفكرة عند الجيلاني تقوم على أساس أن الشعر بوصفه أقدم التعابير الإنسانية على الأرض، وأكثرها صدقية لتحرره عن هيمنة واضطهاد الوعي التاريخي المركزي، فإنه بالتالي الحقل الإبداعي المعرفي القادر على تقديم صورة أكثر جمالًا وصدقية وتوازنًا للإنسان.. وبحكم أن هذه الصورة غائبة في سياقات الوعي التاريخي وتراكماته، فإن الجيلاني يسعى لإعادة اكتشافها وتشكيلها، ووضع الإنسان الإيجابي بصورته السوية تلك في سياقه الصيروري الطبيعي المتوازن منذ آدم الثاني الشاعر حتى اليوم!
 

آدم الثاني ودلالة تقديمه عبر الشعر

 
إن الحديث عن فكرة الديوان وفضائه الموضوعي، وفق العناصر السابقة، يحتم توسيع مديات الفضاءات المعرفية كضرورة للهيمنة الجمالية والرؤيوية لعناصر الفكرة، وبالتالي لا بد من فتح سياقات قرائية لتأملات فلسفية عن الوجود -الوجود بالمعنى الإنساني- لأن فضاء الديوان لا علاقه له بتقديم تاريخية للفكرة بصورة شعرية، وإنما إعادة إنتاج واستحضار عالم آدم الثاني السوي بصورة شعرية في الواقع المعاصر القلق، وهذا بدوره يستوجب التتبع الصيروري التاريخي لآدم الثاني في النص الشعري منذ فجر الإنسان حتى اليوم. ولأن آدم الأول الذي يفترض الديوان بمفهوم ضمني أنه ليس سويًا رغم أنه نتاج لمراحل تطور معرفي منذ الميثيولوجيات والفلسفة وحتى الأديان والعلم وصولًا إلى الرقمنة كعلم ومعرفة، فإن ذلك كله يستوجب، وفي سياق اكتشاف آدم الثاني السوي وتعاليمه، القيام بتفكيك وخلخلة أنساق عقائدية ويقينيات ومهيمنات معرفية تستحكم في الوعي الجمعي. ومثل هذه العملية والخلخلة يعد الشعر والنص الأدبي هو أهم الأدوات المعرفية الناعمة لإنجاز تلك المهمة بلا استفزاز أو اصطراع.
 
لنتأمل التراتبية في تبويب الديوان "شعراء"... إنهم الضمير الجمعي لآدم الثاني (الشاعر).. في هذه التبويبة كان النص مقترنًا بمداخل فلسفية تعزز الرؤية الشعرية في اعتبار الشاعر هو الأب الأول والسوي والمانح للإنسان. الاب بالمفهوم الصيروري المعرفي، وليس التناسلي، بل إن بعض المهاجسات النصية واندغاماتها المتعاشقة في فضاءات المتخييل النصي، تتبطن ترميزات ضمنية توحي بألوهية الشاعر آدم الثاني. وهذه المهاجسات وترميزاتها لا يمكن تقديمها كمعارف إبداعية إلا بصورة شعرية.. أما لو كان ذلك بقالب فكري أو بحثي معرفي غير الشعر، فستكون النتيجة أن تستيقظ شهوة السواطير في الأغماد، وتقوم قيامة حراس الدين والوعي التاريخي المركزي.
أما عبر الشعر فإن الاصطراع المقاوم أقل ضراوة، باعتبار أن الشعراء لا يتبعهم إلا الغاوون وفق وعي وذهنية تلك المراكز!
كما أن التبويبة الثانية "شعراء"، ومن أول بنية نصية، نجدها تضفي في أفق ضبابي صفات ألوهية مائزة لآدم الثاني الشاعر:
"لم نرَ مولدك بأبصارنا
منذ اللحظة الأولى كنت شابًا ومكتملًا
مدهشًا ومفرطًا في أناقتك..
كان سحرك هو المحرك الخفي للوجود
كنت تصل في الوقت المناسب وتقول الكلمة الفصل
تفعل ذلك ككائن اعتاد على تجسيد تجارب الحياة
منذ تلك اللحظة لم يعد الإنسان وحيدًا...
أنت الوحيد الذي يجعل الوهم حياة... الخ" انتهي النص المقتبس.
إن هذا المفتتح النصي الذي يتحدث عن الشعر بالشعر، يجعل منه -أي الشعر- تعاليم حياة مقدسة تتجاوز كل المرجعيات النصية العقدية والتشريعية في التاريخ.. فالشاعر آدم الثاني هو النبي السوي الذي يؤله عند الجيلاني تارة، ويؤنسن تارة أخرى، وشعره هو التعاليم المقدسة السوية الناظمة للحياة، وهي تعاليم دون غيرها من المقدسات النصية متجددة وخلاقة منذ بدء خلق أول نص حتى الرقمنة وما بعد بعد الرقمنة.. فالإنسانية منذ الخلق الأول حتى النهاية، هي عند الجيلاني نص شعري، وليست نصًا دينيًا، لأن الشعر كالماء نقي ولازم، وغير قابل للنضوب، عكس بقية التعاليم والنصوص المقدسة الجامدة التي تشيخ وتتيبس كلما تقدمت حركة التاريخ وتطورت العلوم والمعارف الإنسانية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
6 مايو 2025م -دمت -الضالع

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً