صدر حديثاً عن دار جداول في بيروت كتاب “حدود مصنوعة – نقض المفهوم الجغرافي للزيدية في اليمن” للكاتب والباحث محمد العلائي، وهو عمل فكري تاريخي نقدي يسعى إلى مراجعة إحدى أبرز المسلمات الخطيرة في الوعي اليمني المعاصر، والمتمثلة في الربط بين الزيدية والمنطقة العليا من اليمن، حيث تقع عاصمة الدولة اليمنية الموحدة، كما لو أن هذا الارتباط حتمية لا يطالها التغير ولا تقبل المراجعة.
ينطلق الكتاب من هدف رئيس يتمثل في إعادة النظر في هذا التصور، من خلال مساءلة الفكرة الشائعة عن “زيدية جغرافية”، والبرهنة على أن الزيدية، في بنيتها الفكرية والعقائدية والسياسية، لم تكن يوماً عصبية أرض، وإنما هي مشروع يقوم على عصبية “النسب المقدس”، فلا النظرية ولا تطبيقها التاريخي ينطويان على ارتباط حتمي بمكان بعينه.
في هذا الإطار، يعيد العلائي تعريف الزيدية بوصفها منظومةً متكاملة، يتلاحم فيها الفقهي بالسياسي، على نحو يجعل من الإمامة جوهراً غير منفصل عن العقيدة الزيدية كما تشكلت تاريخياً، وهو ما يدحض إمكانية وجود زيدية فقهية خالصة قابلة للبقاء بمعزل عن مشروع الإمامة.
ويذهب الكتاب إلى ما هو أبعد، ليحاور بشكل مباشر الفكر التقسيمي الذي هيمن على النظرة إلى الأحداث والعلاقات في البلاد خلال العقد الماضي.
ومن هنا، يقدّم فرضيةً جريئة، وهي أن فصل المنطقة العليا عن الزيدية ذهنياً ومعرفياً هو مقدّمة ضرورية لوصلها بباقي الجغرافيا اليمنية معرفياً واجتماعياً.
وفي مسعى لبناء وعي جديد، يدعو العلائي إلى التأسيس لرواية وطنية جامعة، تحرّر أبناء ما يُسمّى بـ”اليمن الأعلى” من قيد التصنيفات المختزلة التي تحتجزهم بين جدرانها باعتبارهم “زيوداً”، هذه التسمية التي تُستخدم في خضم الصراع للمناكفة والتنابز العامي المناطقي، وليس الوصف العلمي الموضوعي.
ويكشف كيف أن كثيراً من أبناء هذه المنطقة، بسبب التكرار والإلحاح الإعلامي، باتوا يظنون أنفسهم كذلك، رغم أن الأغلبية لم تعد تنتمي فعلياً إلى الزيدية، لا فقهاً ولا ولاءً سياسياً لإمام علوي، خصوصاً قبل سيطرة الحوثيين على العاصمة.
يبحث الفصل الأول من الكتاب في معنى أن يكون المرء زيدياً، بينما يناقش الفصل الثاني أقلمة الزيدية أو تسييس ومذهبة التباين الجغرافي، ويسلط الفصل الثالث الضوء على حقيقة أن الزيدية عصبية نسب لا عصبية أرض.
وفي الفصل الرابع مبحث عن التحولات العميقة التي شهدتها المنطقة العليا في الزمن الجمهوري، من حيث البنية المذهبية والسكانية والتكوين الحضري المديني، وهي التحولات التي يتم تجاهلها عمداً في الخطابات التي تسعى لإبقاء تلك المناطق أسيرة الماضي، وعالقة في صورة نمطية لم تعد تعكس واقعها.
ويقدم الفصل الخامس نقائض لروايات المهووسين بالهوية في تفسير بعض الوقائع التاريخية التي ليس للعامل المذهبي دور فيها، ويختبر المؤلف في الفصل السادس فرضية تتحدث عن وجود أصل "قَبَليّ" مناطقي موغل قي القدم للانقسام المذهبي في اليمن [همدان مقابل حمير]، ويبيّن بُطْلانها.
وفي الفصل الأخير من الكتاب، يطرح المؤلف فكرة تقول أن تاريخ الزيدية في اليمن هو تاريخ “دعوة” وانشقاق أكثر مما هو تاريخ “دولة” وانتظام.
“حدود مصنوعة” مساهمة فكرية تسعى إلى هدم منظومة من التصورات المغلقة، وفتح الطريق نحو وعي وطني يتجاوز الأسوار الذهنية، كتاب يفتح باب السؤال، ويضع القارئ أمام مسؤولية التفكير في ما نعدّه بديهياً.
وفي لحظة يتنازع فيها اليمنيون حول الهوية والخريطة والمصير، يأتي هذا الكتاب كخطوة أولى نحو تفكير جديد… يتجاوز الحدود المصنوعة.
جدير بالذكر أن محمد العلائي هو أيضاً مؤلف كتاب “الجمهورية الفانية”، الصادر عام 2021 عن دار الفارابي في بيروت، وهو عمل تأملي وتحليلي يتناول الأصول المتغيرة والثابتة للمسألة اليمنية الراهنة، ويقدّم محاولات تفسيرية تبحث في جذور الانهيار والحرب، وممكنات الخروج منها.
لا يطرح الكتاب إجابات حاسمة، بل هو بمثابة رحلة معرفية استكشافية، يلامس الإشكالات المسكوت عنها في الوجدان اليمني العام خلال سنوات الحرب، كما يحتوي على تعليقات وملاحظات حول التعبيرات السياسية والمقولات المؤطِّرة للخطاب الوطني، بما في ذلك ملامح البنية النفسية والثقافية التي رافقت التحول من الجمهورية إلى ما يشبه الدولة الفاشلة.
يجمع العلائي في كتابه بين التحليل التاريخي المقارن، والمنطق الاستقرائي، والرصد الصحفي، والتأمل الشخصي الذي يخالطه طيف من الغنائية السوداء، في مرثية موجعة لوطن أنهكه الصراع وعواقب التجزئة.
ورغم اتساع أدواته، يظل اهتمام الكتاب منصبّاً بكامله على اليمن، واقعاً وإمكاناً.