وجوه معلّقة في الغياب*

وجوه معلّقة في الغياب* - حاتم الصكر

-1-
في الحروب يكون للمخطوف دوماً وجود ثالث يتأرجح بين الحضور والغياب الأبدي، بين الحياة والموت، بين نسيانه كصفحة ختمت وانغلقت بغيابه، وبين تذكره حياً كاستمرار لوجود صنعته ذكراه وطفولته وشبابه.
تنتهي الحروب فيعود الجميع.. الموتى لقبورهم.. والأحياء لبيوتهم، والجرحى لجراحهم، والأسرى لحريتهم، ولكن الوجوه الغائبة أو المغيبة بالخطف والتغييب في مصير مجهول، وحدها (تظل معلقة..).
هكذا يصفها المخرج اللبناني الذي كان يتحدث في برنامج تلفزيوني عن فيلمه الوثائقي «وجوه معلقة» ويؤرخ فيه للمخطوفين في حرب لبنان الأهلية.. ويضيء هذا الجانب المنسي في أهوال الحروب والكوارث التي تصاحبها أو، الآلام التي تعقبها.
-2-
عندما اختطف ابني (عدي) وهو في الطريق من بغداد إلى عمّان، كتب لي كثير من الأصدقاء مواسين معللين بأن الوطن كله مخطوف، لا الإنسان الذي يريد أن يفر من جحيمه فيقع في كمائن الغيب المدبر الذي يلقي به دون منطق أو سبب في ظلام مصير مبهم يظل لغزاً مع اختفاء سيارات الخاطفين الذين فروا بصيدهم، وتركوا غباراً عالقاً في ذاكرة طفليه وزوجته وأمه.. ابنه في عامه السابع يرسم قتلةً بحجم الورق وإنساناً ينسحق تحت قبضات أسلحتهم.. إنه لا يفقه المسألة كلها، لكنه سيحتفظ بأكثر مفرداتها مأساوية: تحت السلاح ينزل الأبرياء من مقاعدهم وينتزعهم الخاطفون المختفون وراء الأقنعة السود من أحضان أمهاتهم ليتركوا حياتهم وأحلامهم وأسرهم وزوجاتهم وآبائهم وأمهاتهم وأصدقائهم.. وتغوص بهم الخطى في مجهول معتم، حيث لا إشارة تصل منهم، ولا رسالة تدل على حياتهم أو على موتهم على الأقل..
ولكن من هو المخطوف في الحقيقة؟
المخرج اللبناني الذي عرض فيلمه الوثائقي في مهرجان سينمائي عربي مؤخراً يؤكد أن (الأهل والأصدقاء) هم المخطوفون، لأنهم يظلون أسرى فكرتهم عن عودته أو غيابه دون يقين نهائي، بينما يستريح المخطوف لمصيره الذي قاده إليه الظلاميون وأوغلوا في الابتعاد به عن أي شيء يتعلق بالحياة.. حياته أو حياة سواه، فلا يظل لأي شيء معنى أو وجود خارج وعيه وإدراكه..
المخطوفون الحقيقيون يظلون رهائن حلمهم بعودته إلى الحياة، تلك العودة التي لا يرجونها في حالة الموتى مثلاً.. الخطف أكثر قسوة من الموت نفسه إذاً.. وأكثر عنفاً من القتل ذاته..
-3-
كنت ذات يوم من أعوام التسعينيات الأخيرة قد التقيت الشاعر الفرنسي الغجري سيرج بي في صنعاء.. وقد رأيته ذلك اليوم يقرأ شعره لاهثاً منفعلاً وهو يدوس أكواماً من حبات الطماطم التي يسيل ماؤها الدموي على المسرح وفي وسط الحلقة التي كان يلقي شعره فيها..
حين سألته عن سر الطماطم التي تصحبه في كل قراءاته، أجاب الشاعر بأنه يستذكر أولئك الذين فقدوا حياتهم في الحرب الأهلية اللبنانية لمجرد أنهم فشلوا في اختبار (الهوية) عند الحاجز الذي وضعه القتلة إن كانوا فلسطينيين أو لبنانيين عبر تسكين (نون) البندورة أو تحريكها..
وهكذا جعلت الحرب حياة الناس مرهونة بحبة طماطم لاأكثر.. وظل في ذاكرة الشاعر ذلك المشهد الدموي المستمد فاعليته من دم الطماطم التي يحملها معه في قراءاته الشعرية عبر مدن العالم...
تذكرت ذلك متسائلاً عن مصير ابني الذي ربما فشل في الإجابة عن سؤال صانعي الحواجز على الطرق وحاملي الموت المتنقل... سؤالهم الذي يلخص ضيق منظورهم وظلام أفكارهم وهم ينبشون في المولد والرسّ والطائفة والمذهب ليسمعوا من المخطوفين طريقة تكبيرهم في الأذان وتميزهم لهم على أساس ذلك..
كم من المخطوفين ترك حياته وأسرته وراءه وهو ينسى أو يسهو عن رغبات خاطفيه ويتجاهل نياتهم..؟
كم ستكلفه جملة واحدة لا يدرك مغزاها في فكر هؤلاء القتلة الذين تنتجهم الحروب كمخلوقات شائهة تتناسل في ظل الخوف والموت والرعب، وتتكاثر بشهوة القتل وإقصاء الآخر وجوداً وجسداً، وإبعاده عن حيز الحياة وفضاء العالم...؟
-4-
كثيراً ما حلمت ب(عدي) وهو يصف لي كتب مكتبتي، أو يسقي أشجار حديقة بيتنا ببغداد، أو يطلق ضحكات صافية مع طفليه وهو يلهو معهما حتى في لعبهما، أو صوته عبر الهاتف وهو يخبرني بأحوال الأسرة أو الخراب الذي راح يحل بالبلد شبراً شبراً.. ثم برجائه بأن يخرج من بيته مضطراً ليعيش في أمان الغربة الموهوم وسلامها المزعوم.. وأخيراً في فرصة سفره الأخيرة ودون مبرر أو سبب يغيب وجوده، ويظل صوته ضائعاً في الهاتف، مختفياً في عنوانه الإلكتروني، مختفياً وجهه المعلق في الغياب..
وسيظل السؤال كصراخ طويل في ليل الأبدية: من يعطي الحق لبشر -أو مدعي الانتساب لجنس البشر- أن يوقفوا حياة سواهم فجأة، أو يسرقوا أحلامهم وأيامهم وذاكرتهم دون أن يطرف لهم جفن مما يضعون وراء أقنعتهم التي تمنع النور عن وجوههم، لكنها لا تمنع انتشاره في الحياة التي يكرهون...
* عن «دبي الثقافية»