التعريفات.. الشخصية التسلطية

التعريفات.. الشخصية التسلطية - ابوبكر السقاف

مفهوم يجمع تصورات نظرية عن شخصية نمطية تعتبر أساس الأنظمة التوتاليتارية، لأنها تجمع ملامح وصفات مثل الرجعية، والعدوانية، والتعطش إلى السلطة، ونمطية التفكير، والتمسك بالتماثل، وكره الانتلجنسيا وممثلي الجماعات الإثنية الأخرى. وقد ظهر المصطلح لأول مرة في سياق التيار الماركسي الجديد في مدرسة فرانكفورت الاجتماعية، عند محاولة مفكري هذه المدرسة دراسة التربية الاجتماعية التي يسرت ظهور النازية في المانيا. ثم أصبح المصطلح جزءاً من القاموس الاجتماعي اليساري في الستينات.
طرح المفهوم أحد مؤسسي الفرويدية الجديدة، وكان قريباً من مدرسة فرانكفورت. ثم وظفه في دراساتهم مفكرو مدرسة فرانكفورت: هوركهايمر، وماركوزه، وأدورنو. وهذه الشخصية يفترض أنها مناقضة للشخصية غير التماثلية، التي تحدث عنها الرومانسيون، إذ عارضوا «العبقري» الفنان بالعامي البليد والخامل، وأصبح في العشرينات «رجل الجماهير»، ودرست صفاته الشخصية بمنهج علم الأعماق الفرويدي، وبمناهج التحليل الاجتماعي المتأثر بالفرويدية الجديدة، التي اهتمت بدراسة انحلال المجتمع التقليدي، لا سيما العلاقات الاسرية والقرابة. وقد تبلورت فكرة الشخصية التسلطية بصورة نهائية، بما هي مصطلح يساري -راديكالي (جَذري)، في حقول الدراسات الاجتماعية- النفسية، وذلك لتفسير السهولة التي انتصرت بها الفاشية في عدد من بلدان أوروبا. وقد ربط ممثلو هذا التيار انتصار النازية في المانيا، والفاشية في إيطاليا، بظهور ملامح اجتماعية - نفسية معينة، نتجت عن انهيار العلاقات الأسرية التقليدية، وترتب على ذلك ضعف الأنا -الأعلى، في بنية الشخصية، والذي تمت صياغته النظرية بتوظيف مفهوم الشخصية التسلطية. وهذا التفسير يضخم العامل الاجتماعي - النفسي، في تفسير نشأة الفاشية، ومعه اكتسبت الفرويدية الجديدة طابعاً يسارياً طليعياً. فوفقاً لآراء إريك فروم، ترتب على انهيار -العلاقات الأسرية- البطرياركية (الأبوية)، وعلى تحضر (المدن)، تجمُّع أعداد غفيرة من الناس في العصر الحديث. إن الشخصية التسلطية، تعاني من الشعور بالحرية التي لا تطاق، ومن الوحدة، والضياع في البنى الاجتماعية الجديدة. وتزيد هذه المشاعر السلبية من شدة غريزة الحفاظ على الذات، ومن إرادة إثبات الذات. إن إرادة تحقيق الشخصية التي لا تجد متنفساً لها في نشاط اجتماعي ذي سمات ديمقراطية، يتحقق في سياق التسلطية، بفضل توحد الشخصية بجماعات سلطوية، وبالدولة، والقائد الخاريزماتي (اللدني، الملهم). إن هذه السلطة المرجعية- الشخصية التسلطية، تنوب عن سلطة الأب، التي فُقدت في مسار انهيار الأسرة. وكان هوركهايمر قد انشغل مثل فروم في الثلاثينات، بهذا المفهوم، فقد نشر بتحريره وإشرافه في العام 1936م كتاب «بحوث في المرجعية والأسرة». وقد وصف هذا الكتاب أدورنو فيما بعد قائلاً إنه قد تم فيه تقديم «البنية العامة للصفات التوتاليتارية». وقد حدث تقدم هام في صياغة مفهوم الشخصية التسلطية، بإصدار أدورنو، وفرنكل بروتشفيك، ود. ليفانس ور. ساتفورد، كتاب: «الشخصية التسلطية»، حيث عرض هذا المفهوم نظرياً و بوساطة بحوث ميدانية، واستخدمت مناهج جديدة، مكنت أدورنو وبقية المؤلفين من تكرار استنتاجات فروم، وهوركهايمر، للتدليل على وجود الشخصية التسلطية، في الفترة التي تلت هزيمة الفاشية. وقد وصفت هذه الشخصية بأنها «فاشيزويدية»، الأمر الذي جعلهم يتصورون الأنظمة الليبرالية -الديمقراطية، بعد الحرب العالمية (الأوروبية) الثانية، بما هي «فاشيزويدية»، أي: تنطوي على تهديد فاشستي. فوفقاً لأدورنو وزملائه إن الشرط والوضع السياسي للشخصية التسلطية يكمن في العلاقة غير النقدية بالأنظمة القائمة، وفي التفكير النمطي، المغموس في الدعاية السائدة والمسيطرة، وفي النفاق، واحتقار الفقراء، في غمرة الاهتداء بهدي السلطة والقوة. كتب هوركهايمر، في مقدمة البحث، عن الشخصية التسلطية، فوصفها بأنها نمط انثروبولوجي جديد، ظهر في العشرينيات. وقد قدم الكتاب توصيفاً نمطياً معيناً لهذه الشخصية بما في ذلك الصفة السادية - المازوكية.
إن فرضية أدورنو وزملائه، التي صيغت بناءً على بيانات أمريكية، استخدمها إركسون، الذي توصل بعد مقابلات مع الأسرى الألمان إلى استنتاج مُفاده أن لديهم أعراض الشخصية التسلطية. ولكن كون الأعراض التسلطية تعبر عن نفسها في أنماط أيديولوجية مختلفة، كان سبباً في توجيه النقد الى تصورات أدورنو للشخصية التسلطية، التي وصفت بأنها محاولة لحصر هذه الشخصية في مشكلة العقيدية أو القطعية الدغمائية. كما وجه النقد الشديد إلى الجانب الميداني (الإمبيريقي) في البحث. إن السؤال الأساسي هو: هل صحيح أن الملامح «التسلطية» تنتمي إلى نمط معين من الشخصية، ولا تنتشر في كل الأنماط القائمة؟ وقد عمق الباحث الألماني روغمان، النقد الذي بدأه هيامان وشتلي، في كتابه «الدوغمائية والتسلطية» (1966). ورغم ذلك فإن تصور أدورنو، وجد تأييداً من قبل عدد كبير من الباحثين السوسيولوجيين في الغرب، ولا سيما في صفوف اليسار الراديكالي، والليبراليين، حتى السبعينات. تستقر في عمق هذا التيار أفكار ماركوزه في كتابه «الحب والحضارة» (1955)(1) وفي «الإنسان ذي البعد الواحد» (1964)(2)، والذي كان رائجاً في الغرب في منتصف الستينات، حتى منتصف السبعينات. ويمكن الحديث عن تأثير هذه التصورات في مجالات ثقافية أخرى في الغرب، بما في ذلك الأدب، والسينما.
إن الشخصية التسلطية في السياق العربي لها سمات خاصة تميزها عن نظيرتها في الغرب الحديث أو المعاصر. ولكن ذلك لا ينفي البتة اشتراكهما في سمات أساسية توحدهما في مفهوم الشخصية البطرياركية (الأبوية) ذات الجذور المشتركة في كل الأنماط السابقة على الثورة البرجوازية والحضارة الرأسمالية، وتنسج كلتاهما شبكة السيطرة العنكبوتية من مصدر قديم وعميق للشخصية الأبوية الاستبدادية في المجتمع القديم، وتمدها التصورات والتفسيرات الدينية، والأسطورية، والفلكلورية، بزاد وافر من المخيال الاجتماعي المغموس في عمق القديم، والذي لا يزال حاضراً في البنية الاجتماعية والنفسية والثقافية في البلدان العربية، التي لا تزال تحتفظ بالسمات الأساسية للمجتمع الأبوي، وهو قبيلي بامتياز، وإن تفاوتت حظوظ كل مجتمع عربي منه، بدرجة تلقحها بالحديث الوافد، ولنقل: بدرجة تزحزحها. ولكن البنية البطرياركية (الأبوية) حاضرة في كل الحواضر العربية، سواء أكان ذلك الزعيم الخالد جمال عبد الناصر، أو «أبو العيلة» عند السادات، أو «القائد الضرورة» عند ميشيل عفلق في وصفه لصدام حسين، وكلاهما -وإن على تفاوت- عدوانيان، ولكن الثاني يمضي في مسالك باثولوجية (مرضية) تجعل دراسته سريرياً ضرورة علمية، فهل يمثل حالة بارانويا صارخة؟
والشخصية التسلطية العربية خاضعة لمكونين ينتميان إلى ما قبل الرأسمالية وإلى ما بعدها معاً، أي إلى البنية القبيلية، والبنية الملقحة بالحديث الوافد بما في ذلك شروط قيام برجوازية محلية عاجزة قعيدة، تقوم على الوكالة «والصفقة» أكثر من قيامها على الإنتاج، فهي أسيرة بنية تابعة للإمبريالية. ولذا نجد الشخصية التسلطية في البلدان العربية، شديدة التنوع، وهي بذلك تصور فسيفساء المجتمعات العربية، ودرجة تحديثها، فنجد خليطاً يجمع عبدالناصر، وخادم الحرمين، وبن علي، وعرفات، وصدام حسين، وحافظ الأسد، وعلي عبدالله صالح. ويجمع هذه الشخصيات مبدأ السلطة والتسلط رغم الاختلافات في المستوى الثقافي، والانتماء الاجتماعي -الطبقي، ونصيب كل واحد من الخاريزما أو غيابها. ويقدم أنموذج عرفات صورة فريدة، فهو مستبد بدون دولة، ولكنه نتاج الذهنية القبلية العسكرية العربية، وصفة الـ«ختيار» تحمل تعريفاً دقيقاً لها.
الشخصية التسلطية العربية، تختلف عن نظيرتها الأوروبية، بأنها تمارس تسلطيتها في مجتمع غير حديث. فرغم كل أخطاء وجرائم ستالين، وفرانكو، وهتلر، فإنهم جميعاً كانوا يمارسون سياساتهم في مجتمع دخل العصر الحديث، ومن هنا قيامهم بدور في بناء القوة، وتوظيف العلم، والإدارة الحديثة المطوعة، لأغراض الطبقة الحاكمة.بينما كانت ولاتزال كل أعمال الشخصيات التسلطية في أقطارنا العربية، ذات ملامح فردية، وتميزها سمات دولة لم تتمكن من أن تكون دولة وطنية، أي دولة لكل مواطنيها. ولذا فإنها ترتكس دائماً في مستنقع المذهب والطائفة والجهوية. والشواهد كثيرة: في العراق، والسعودية، واليمن، والسودان، والجزائر، وسورية. بل وفي مصر، التي تثير قضية الأقباط فيها وهم مصريون بالأصالة (قبطى = مصري) من حيث تمكينهم سياسياً، ومن الحرية الدينية، أي اكتمال نصاب المواطنة، والجيش هناك هو حارس رواسب التخلف التاريخي. فجمع السلطات المدنية والعسكرية في يد واحدة قيد أساسي خطير على تطور بل نشأة السياسة المدنية، وفيه تبدأ الدورة السحرية الخبيثة التي نعيش فيها منذ أول انقلاب عربي قام به بكر صدقي (كردي) في العراق العام 1936م. وكل حديث عن العصرية والديمقراطية في ظل حكم فردي، يجمع بين رئاسة الدولة وقيادة الجيش، بحث عن سراب. فلا بد من البدء بحظر الجمع بين الرئاستين المدنية والعسكرية.
تقوم الشخصية التسلطية بدور الحارس لامتيازات المجتمع القديم، والحيلولة بين القوى الحديثة والظفر بحق المواطنة والتمثيل السياسي، في إطار دولة لمواطنيها. فهي على رأس سلطة تطرد الشعب يومياً من المجال السياسي. وهذه الشخصية تمثل لقاء المصالح الاجتماعية القديمة ومصالح الطبقات والفئات الجديدة المرتبطة بالسياسة والاقتصاد الإمبرياليين، لا سيما في أمريكا. وتتعانق في هذا السياق العربي المتميز للتبعية، هذه المصالح التي تديم الاحتلال الصهيوني، والتبعية، ورعاية التخلف.
واليمن صورة من الصور المثلى لهذا اللقاء غير السعيد بين أحفورات العالم القديم ومصالح المعسكر الإمبريالي - الصهيوني.
يغلب على طبع وتكوين هذه الشخصية في البلدان العربية إما أصلها الريفي، وإما البرجوازي الصغير، في بيئة غير صناعية، أو تم ترييفها. ومن هنا هزالها الثقافي الذي يكون أحياناً اسماً آخر للأمية الثقافية والسياسية، فلا تبقى فيها إلا المكونات الأساسية البدائية، التي تلتحم بأساسها الأول: شهوة السلطة والتسلط، فتبدو متحررة من تاريخ الشعب والأمة بأسرها، وبالطبع من شروط العصر ومعاييره.
(1) و(2) ترجم الكتابان إلى العربية وصدرا عن دار الآداب في بيروت في الستينات من القرن الماضي.