التعريفات* التسامح

التعريفات* التسامح - أبوبكر السقاف

الأصل اللاتيني للكلمة يعني الصبر، وهو صفة أخلاقية تصف العلاقة بشخص آخر ينتمي إلى عرق آخر، أو قومية أخرى، أو تقاليد ثقافية مختلفة، أو مذهب ديني، باعتباره مساوياً لنا كل المساواة. ولا يختزل التسامح إلى الصبر فقط؛ بل الصبر ليس إلا أسلوب العلاقة بالموضوعات أو الكيانات التي لا تقبلها، دون اللجوء إلى العنف. أما إذا كان السلوك ضرباً من التعالي على الآخر المختلف، فإنه يخفي العداء الكامن في النفس. إن التسامح على خلاف الصبر يقر للأفراد بحقهم في الاستقلال الذاتي. والتسامح بما هو صفة للشخصية يفترض حواراً ندياً مع الآخر، ومعرفة الجديد والآخر: الغريب المختلف، ولا يستبعد إمكان حدوث تغيير في نسق الأراء التي تؤمن بها.
المصطلح اللاتيني كان ذا دلالة سلبية، صبراً سلبياً، والقبول الطوعي بتحمل المعاناة والآلام والشر، وأضيف إلى هذه الأفكار: السماح وضبط النفس، في القرن السادس عشر. وأصبح للتسامح منذ القرن السابع عشر دلالة جديدة: السماح من قبل الدولة ومن الكنيسة الرسمية، لأصحاب الديانات الأخرى بممارسة طقوس عباداتهم.
إن التسامح العقيدي غدا صورة فكرة التسامح في العصر الحديث، ومبدأ مؤثراً في الحياة الاجتماعية في الفترة الممتدة من القرن السادس حتى القرن الثامن عشر. وفسر في هذه الفترة على أنه المبدأ الحاكم في العلاقة بين السلطة الزمنية والروحية، وبين الدين الرسمي والمذاهب والنحل في الأديان الأخرى، وبين المؤمنين والملحدين. ولبلوغ أهداف التسامح اقترح المدافعون عنه تحديد سلطة الحكام في شؤون العقيدة. وفهم التسامح على أنه حرية الضمير عند المؤمن كان من الأفكار التي دافع عنها مارتن لوثر وأنصاره. كما أن الفلاسفة الإنسانيين نادوا بالفكرة نفسها، وهم الذين رفضوا الحكم المسبق والتحيز، ومنهم إرازموس الروترادامي وتوماس مور.
ولعل التسامح تمثل في التاريخ العربي في المقام الأول عند الصوفية، الذين اتبعوا طريق الذوق، فأصبح الدين عندهم قضية شخصية قبل كل شيء. وكانوا يزدرون الفقهاء و«علماء الرسوم»، ويتهمونهم بالسعي اللاهث وراء الجاه وحطام الدنيا (ابن عربي). ومع التعقيد الفلسفي الذي لحق بالتصوف أمكن أن يقول ابن عربي قصيدته المشهورة التي منها: «لقد صار قلبي قابلاً كل صورة...» فصار يتسع للعبادات كلها» دون استثناء داخل دين الحب. كما تمثل التسامح في موقف ممثل الشافعية في بغداد، القاضي صقر، الذي رفض ان يوقع فتوى إعدام الحلاج صلباً؛ إذ قال: «إن الرجل يتحدث عن الباطن وأنا لا أستطيع الحكم إلا على الظاهر». ولعله أدرك أن الفتوى تحقق هدفاً سياسياً في المقام الأول، فأحجم. ولكن لا نجد عند ممثلي المدارس الفقهية الإسلامية ذرة من التسامح نحو الصوفية، وكانوا، على اختلاف في تشددهم، يناصبون التصوف العداء الصريح حتى التكفير، رغم وجود آيات في القرآن تدعو بوضوح إلى قبول الآخر المختلف، وعدم وجود حد على الردة فيه أي عقوبة في الدنيا. وهذا يدل على الفرق الشاسع بين الإسلام المعياري وإسلام المسلمين.
نافح المسلمون عن التسامح باعتباره فضيلة أخلاقية، وخيراً اجتماعياً، مستندين إلى الكتاب المقدس. فدعوا إلى نسيان الخلافات بين الفرق، والاهتمام بالجوهري في المسيحية؛ وهو مبدأ المحبة، وكذلك الرحمة والحياة المستقيمة (إرازموس الروتروامي وفرانك وكاستيليون وبيومه ودي بوبتال وآخرون). وقد دعوا إلى التخلي عن العنف باعتباره وسيلة مرفوضة للتعامل بين الناس لدعوتهم إلى اعتناق عقيدة أو فكر ما، والدعوة ممكنة فقط في حال الانضمام الطوعي إلى دين أو مذهب. وظل هذان الشرطان ساريين عند الحديث عن أي تبشير أو دعوة فكرية في القرن السابع عشر (إسبينوزا، ويليامز، ولوك)، وكذلك عند بييل، وفولتير، وديدرو، وليسنغ، وآخرين، في القرن الثامن عشر. وأصبح الدفاع عن الدولة المركزية القوية في هذا القرن ملمحاً مائزاً فيه. ومن هنا برزت ضرورة الدفاع عن التسامح من وجهة نظر المصلحة السياسية لتجنب المشاكل الكبيرة في الدولة، مثل عدم الاستقرار الاجتماعي. وهنا يصبح الدفاع عن التسامح ورفض أية محاولة للحد من تأثيره الشغل الشاغل لفونتين ولوك وروسو.
أما عصر التنوير فقد قدم دفاعاً نظرياً عن التسامح، مؤكداً على حرية الكلمة والضمير. وتحفل «الموسوعة» المشهورة بكتابات فولتير وديدرو؛ حيث يطرح التسامح بما هو قضية أخلاقية -سياسية. وقد رأوا أن طرد هذه الفضيلة التي تجلب السلام بين الناس كان سبباً في قرون امتلأت بالعار والشقاء».
وقد طورت الفلسفة الليبرالية في القرن التاسع عشر بعد التسامح، حيث أصبح فيها يعني الحرية الجوانية والبرانية، يكون الفرد معها قادراً على اختيار آرائه وسلوكه.
دافع الليبراليون عن الحياة النقية التي لا تشوبها شائبة من الإرغام، لا من الوسط الاجتماعي والاستبداد الأبوي، ولا من الدولة. فالواجب إنما هو «المساعدة على تحطيم حتى أخف أنواع اللاتسامح» (هوميولت). ويقدم «ج. س ميل» تنوع الخيرة بدلاً من الرأي الواحد السائد، وهذا في رأيه ضمان توافر شروط أكمل لمعرفة الحقيقة وصنع التقدم.
وقد نقل علماء العصر نفسية التسامح إلى السجال العلني، فهو مدخل للنقاش المثمر، واعتبر مبدأ أخلاقياً ماثلاً في أساس العلم (كارل بوبر)؛ فهو رفض دعوى امتلاك المعرفة الحقيقية، والاعتراف بوجود مسالك عديدة متناقضة إلى هذه المشكلة أو تلك. وتزداد ضرورة اعتماد مبدأ التسامح في تلك المجالات التي لا يوجد بها معيار محدد للبت في «أي أنموذج يمكن أن تقدمه هذه الجماعة أو تلك هو الأفضل من وجهة نظر مطلقة»(دروا)؛ في مسائل العقائد الدينية، والأخلاقية، والعادات الصوفية.. إلخ.
وعندما يبحث العلماء قضية التسامح في المجال الاجتماعي، فإن سؤال حدود التسامح يطرح نفسه بإلحاح، ذلك لأن تعريف هذه الحدود يجب أن ينظر إليه باعتباره قيمة أخلاقية؛ فالحد الأخلاقي على وجه التحديد هو الذي يحول بين التسامح والانقلاب إلى نقيضه، أي إلى التسامح مع كل أمر وسلوك. إن إطلاق مبدأ التسامح يفتح الطريق أمام النزوات والعنف. إذ لا يمكن تحت أية ذريعة أن يكون التسامح تسويغاً للاعتداء على الحقوق العامة وحرية الإنسان.
إن التنوع والتعدد الثقافي حقيقة ملموسة في حياة عصرنا. كما أن عولمة الحياة الاقتصادية والاجتماعية، وكذلك التكامل والاندماج، والتأثير المتبادل بين الكيانات الاجتماعية، حقيقة ملموسة أيضاً. ويصبح التسامح في مثل هذه الشروط والظروف «ليس واجباً أخلاقياً، بل وضرورة سياسية وقانونية (حقوقية)» (إعلان مبادئ التسامح 1995).
أما في الفكر العربي والإسلامي الحديث فإن التسامح لم يطرح كفكرة فرضتها الحروب الدينية كما في أوروبا، بل ارتبط بالقوى الأجنبية الاستعمارية، فحكمت هذه الظرفية، كما يقول الزميل علي أومليل، التفكير في التسامح، فقد قامت «حملة دولية خاصة في فرنسا وانجلترا بعد حرب تطوان، واستصدار ظهير السلطان المغربي محمد الرابع (فبراير 1964)، ثم الضغط على الحسن الأول من بعده فيما يتعلق باليهود المغاربة»؛ وكل هذا باسم «الحرية والمساواة الدينية». أي أن هذا المفهوم لا علاقة له بالاعتراف المتبادل الذي عرفته أوروبا بعد حروبها طوال القرن السادس عشر، وفهم في إطار تصدر «للحرية الدينية» عند الطهطاوي، فهي عنده «حرية العقيدة والرأي والمذهب» ولكن «بشرط ألا تخرج عن أصل الدين» (الأعمال الكاملة، نشر محمد عمارة ص127)، أي أنها لا تتعلق بالاختلاف، كما أن ضرورة الوحدة بين المسلمين، أو بين العرب، قلصت إن لم تلغ مجالات الخلاف والاختلاف. إذ بدا للجميع ان الاختلاف ترف، ولذا ليس مستغرباً أن تكون الحرية الدينية عند الطهطاوي هي الاجتهاد، أي «إدراج المستجد من الوقائع (النوازل) تحت قواعد شرعية أصيلة». وقد عانت الدولة العثمانية منذ عصر التنظميات، في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، من تدخل بريطاني لفرض امتيازات وحقوق للجاليات الأجنبية فيها. ويجري حتى اليوم تضييق مساحة الاختلاف بل والتفكير باسم المعارك ضداً على الغازي والوافد. وقد شهدت الفترة الليبرالية في بعض الأقطار العربية ممارسةً ما للتسامح، مع بدايات التغيير الدستوري في عشرينيات القرن العشرين، ثم انحسرت الموجة. (راجع، علي أومليل، الإسلامية العربية والدولة الوطنية، بيروت،1985) الفصل الرابع.

* مصطلحات في الفكر والفن والفلسفة والسياسة تنشرها «النداء» على حلقات بدءاً من هذا العدد.