الدولة.. الضرورة

الدولة.. الضرورة - سعودي علي عبيد

إذا كانت المعارضة اللبنانية مثلاً تطالب بالدولة القوية العادلة برغم الاختلاف الواضح بين دولتي لبنان المتقدمة واليمن المتخلفة فما عسانا نحن في اليمن أن نقول عن دولتنا التي تفتقد إلى مقومات الدولة المدنية الحديثة، فنحن نعيش في دولة هشة ورخوة، قابلة للتفسخ والاضمحلال في أية لحظة، وما هو متوافر لدينا في اليمن هي السلطة القمعية، وليست بالضرورة دولة النظام والقانون. ذلك لأن كلَّ إناءٍ بما فيه ينضح، وإناء دولتنا يفرز لنا مقذوفاته الصدئة في كل يوم، ولا غرابة إذا ما قلنا: في كل لحظة.
وموضوعنا هذا ليست مهمته تعداد وإحصاء أخطاء هذه السلطة الحاكمة في هذه الدولة الهشة الضعيفة، ولكن سوف نتناول أهم وآخر ما أنتجه لنا هذا النظام السياسي، ونقصد بذلك حدثين مدويين سمع بهما القاصي والداني، وتناولتهما العديد من الصحف المحلية والمنظمات الحقوقية والإنسانية.
أما الحدث الأول فهو معاقبة القاضي أمذيب البابكري، وهو قاض في محكمة حوطة لحج، وكان قد أصدر حكماً قضى بإعدام وسجن مجموعة من المنتمين للمؤسسة العسكرية، لارتكابهم جرماً جسيماً زُهقت بسببه أرواح البعض. وبدلاً من أن تتم مكافأته لشجاعته النادرة في هذا الزمن الرديء، قامت السلطة القضائية بتجريمه وتقديمه للمحاسبة أمام المجلس الأعلى للتفتيش القضائي، وذلك على طريقة محاكم التفتيش سيئة الذكر.
أما الحدث الثاني، فهو ما تعرض له المواطن حمدان درسي الحُديدي (نسبة إلى الحُديدة)، من هتك لآدميته وإنسانيته وعرضه من الشيخ شعيب الفاشق. وقد اطلعنا على تفاصيل ما حدث له من الصحف المحلية وبعض المواقع الإلكترونية.
إن هذين الحدثين لا يشكلان سوى نموذجين لكل الممارسات السيئة، التي تعكس في واقع الأمر الجوهر الحقيقي لهذه الدولة الضعيفة والمسلوبة والمتخلفة وغير العادلة. وبمعنى أخر، فإن هذين الحدثين يعكسان السمات الرئيسة لهذه الدولة، والتي يمكن تلخيصها على النحو الآتي:
1. نحن في دولة تعيش حالة انفصام حادة، بين ادعاءاتها المتكررة المملة، وزيفها الصارخ بصدد تمسكها بالنظام والقانون من جهة، وبين غياب النظام والقانون في واقع ممارستها من جهة أخرى. والأنكا من ذلك أن القائمين على تصريف أمور هذه الدولة، هم من يفرغون هذه الدولة من متطلبات النظام والقانون، وما عسى أن يكون تفسيرنا عندما تكون الجهة التي يركن إليها الحفاظ على النظام والقانون، وترسيخهما في مختلف مفاعيل وأركان الدولة ومؤسساتها، هي ذاتها الجهة التي تولت تحطيم هذا النظام والقانون؟! أما الجهة المقصودة، فهي مؤسسة القضاء التي تولت إحالة القاضي البابكري إلى المجلس الأعلى للتفتيش القضائي لمحاسبته على ذلك الحكم المذكور.
   كما أن الجريمة التي ارتكبها الشيخ الفاشق ضد المواطن المغلوب على أمره حمدان درسي، لهو تأكيد فاضح على فقدان هذه الدولة للنظام والقانون، ذلك لأن هذا الشيخ ومؤسسته –القبيلة- هما جزء لا يتجزأ من مكونات هذه الدولة وحزبها الحاكم، وهو بذلك يكون قد استمد قوته من النظام السياسي لهذه الدولة، الذي يعتبر حامياً لمثل هذا الشيخ.
2. كما أن هذين الحدثين يعكسان -بقوة- هشاشة وضعف هذه الدولة. ذلك لأن الدولة القوية حقاً تكون كذلك تجاه كلّ من يعتدي على سيادتها وهيبتها، مهما كان شأن ذلك الشخص أو تلك الجهة المعتدية. وفي هذين الحدثين بدت دولتنا ضعيفة وهشة. عندما أراد القاضي البابكري تطبيق النظام والقانون والعدالة على مجموعة من نوعية خاصة في المجتمع، وينتمون إلى مؤسسة عسكرية أو أمنية يفترض فيها أنها هي التي تتولى حماية النظام والقانون وتعمل على ترسيخ العدالة في هذه الدولة، وبدلاً من إظهار قوة الدولة على المعتدين، تمَّ توجيه هذه القوة إلى مؤسسة ترسيخ العدالة ذاتها، أي مؤسسة القضاء ممثلة بالقاضي (البابكري). وفي هذا السلوك غير السوي، تكون الدولة قد برهنت على هشاشتها وضعفها.
وبالمثل فقد أكد السلوك المشين والهمجي الصادر عن الشيخ الفاشق تجاه المواطن حمدان درسي، على هشاشة وضعف دولتنا المتماهية بقوتها الزائفة. ذلك لأن هذا الفاشق وأمثاله الكُثر، يتصرفون ويسلكون ويعبثون في المجتمع، بسبب ونتيجة هشاشة وضعف الدولة. ذلك لأن من المؤكد أنه لا وجود لمثل هؤلاء في الدولة القوية.
3. والأدهى من ذلك كله، أن هذين الحدثين يؤكدان بوضوح غياب العدالة في هذه الدولة، وأن ما هو متوافر في دولتنا، ليس سوى عدالة الأقوياء والمتنفذين والفاسدين والمستأثرين بالسلطة. فعندما أراد القاضي البابكري أن يعدل ميزان العدالة المختل لصالح المظلومين والمقهورين، أبت الدولة نفسها، ممثلة بوزارة العدل والمجلس الأعلى للقضاء، تحقيق هذه العدالة، وبدلاً من معاقبة المجرمين والخارجين على القانون وتطبيق العدالة عليهم، فقد ذهبت هذه الدولة إلى معاقبة القاضي البابكري، وإخضاعه للمحاسبة أمام مجلس التفتيش القضائي الأعلى.
وبالمثل فقد ذهب الشيخ الفاشق إلى مقاسمة الدولة وظيفتها في إنزال العقاب بمن يفترض أنهم خارجون على القانون، مع أن ضحية الفاشق ليست من هؤلاء، بل هو شخص بريء ومظلوم وضعيف ومغلوب على أمره، إنه المواطن حمدان درسي. وكما هي الحال في الأولى، فقد أثبت الشيخ الفاشق انتفاء العدالة عن هذه الدولة.
4. ومن المؤكد أيضاً أن هذين الحدثين قد عكسا افتقار هذه الدولة إلى المواطنة المتساوية بين مواطنيها ولو في حدها الأدنى. بمعنى أن هذه الدولة تتعامل مع مواطنيها بمعايير مختلفة، وتقوم بتوزيعهم بمستويات ودرجات متعددة. لذلك فإن القاضي البابكري عندما أصدر حكمه العادل ذاك، يكون قد خرق قانون المواطنة المعمول به في هذه الدولة، ويكون بذلك قد أعطى حقاً لأشخاص لا يستحقونه، لأنهم بكل بساطة يقعون في درجات سفلى من سُلّم المواطنة، بحسب التوصيف المعمول به في دولة الجمهورية اليمنية، أو أن القاضي (البابكري) نفسه يقع في الدرك الأسفل من سُلّم المواطنة هذا.
أما فيما يخص حادثة المواطن حمدان درسي، فالإشكالية أكثر وضوحاً وقبحاً. ومن يتذكر تفاصيلها، لا يسعه إلا أن يشعر بالاشمئزاز والقرف والغثيان. وفي فعلته تلك، فقد اتكأ الشيخ الفاشق على مفهوم دولتنا فيما يخص المواطنة، التي تهبه حقوقاً وامتيازات خاصة، جعلته قادراً على الاعتداء على كرامة إنسانية وآدمية وعرض حمدان درسي.
وعطفاً على ما سبق قوله، يبدو لنا بوضوح ماهية الدولة التي نعيش فيها، فهي دولة تفتقر إلى النظام والقانون، وهي الدولة الهشة الضعيفة المهددة بالتفسخ، وهي الدولة غير العادلة، وهي الدولة التي لا تتوافر فيها المواطنة المتساوية والواحدة... ولذلك فلا غرابة إذا ما قلنا: أننا في اليمن بحاجة ماسة إلى الدولة المدنية والحديثة التي نفتقر إليها.