لبنان و اتجاهات التغيير

لبنان و اتجاهات التغيير - عبدالباري طاهر

من الصعب عليَّ الحديث عن لبنان بدون عاطفة عميقة و إنسانية؛ فلبنان، الوطن الصغير، تمتد جذوره إلى أعماق التاريخ، وتتمازج فيه الحضارات الإنسانية الكبرى بدياناتها المختلفة، وثقافاتها الزاهية. ويمثِّل بحق ملتقى عدة حضارات: الرومانية، البيزنطية، اليونانية، العربية الإسلامية، المسيحية، اليهودية، وقبل ذلك: الأشورية، والفرعونية، والكلدانية، والفينيقية، والفارسية، والهندية.
وربما أن هذا التمازج بحضارات وأفكار كبيرة، له أثر كبير في بروز نزعة أكثر انعزالاً و جنوحاً نحو الطائفية، ومحاولات رفض البيئة العربية والإسلامية من حولها. فليس غريباً أن عَلَم لبنان السابق الذي صِيغ في الحرب العالمية الثانية عقب كفاح لبنان، الذي أسهم فيه كل اللبنانيين، بمختلف مراتبهم الاجتماعية وانتماءاتهم الفكرية والسياسية والدينية، ضد الاستعمار الفرنسي، قد تكوَّن من الأحمر (شعار القيسية) والأبيض (شعار اليمنية)، وبينهما أرزة خضراء (شعار لبنان).
لقد قام النظام في لبنان منذ الاستقلال بُعيد جلاء الجيش الفرنسي، على أساس المحاصصة الطائفية فيتوزع مجلس النواب المكون من 99 نائباً: 54 من المسيحيين، إلى جانب 45 من المسلمين. ويصبح رئيس الجمهورية من الطائفة المارونية، بينما رئيس الحكومة من السنة، وقد همشت الشيعة والدروز والطوائف والاثنيات الأخرى.
مرَّ لبنان بالاحتلال العثماني، فالاستعمار البريطاني، ثم الفرنسي الذي تولى صياغة النظام في بُعده الطائفي. هذا النظام القائم في مظهره العام على المحاصصة الطائفية يخفي -عامداً- البعد الاجتماعي للصراع، ويؤدلج السياسي أو يغيبه لصالح البعد الطائفي، ويخفي الغبن الطائفي للأقليات؛ حيث يستحوذ طرف من الأطراف: المارونية و السنة، فإن الغبن يلحق بغالبية الموارنة والسنة أيضاً. أما الشيعة والدروز والطوائف المسيحية الأخرى: الأرمن والكلدان واللاتين والسريان واليونان الأرثوذكس والبروتستانت؛........... مما يجعل من لبنان لوحة فسيفسائية للأعراق والأجناس والديانات، فهو بامتياز بلد التنوع والتعدد، وقوته في هذا التنوع. وجعل هذه الأجناس والطوائف لا تدخل في التقاسم الطائفي أو إعطائها نصيباً من الكعكة غاية الظلم. فالتقاسم الطائفي يمثل غبناً لجميع الطوائف بدون استثناء، بما في ذلك الطائفتان الكبيرتان: المسيحيين والمسلمين؛ لأنه تقاسم يغيب البعد الاجتماعي, ويوظف الدين للسياسة ثم _ و هذا هو الأخطر- يحتكر الزعامة في بيوتات معينة تقوم بإقصاء الجميع, ورص الجميع و كأنهم في مواجهة الجميع.
يتساءل مفكر مهم (مهدي عامل): «هل هذا التوازن يعني المساواة بين الطوائف في الحقوق والواجبات؟»، ويرد على أحد الصحفيين والمفكرين المرموقين (شيحا): «وهل إدارة الدولة من قبل الطوائف إدارة مشتركة؟». ويمضي في التساؤل: هل علاقة التوازن هذه بين الطوائف تلغي الهيمنة بينها. أم أنها بالعكس تستلزمها بالضرورة ؟ وأين تكمن هذه الضرورة؟!».
و الحقيقة أن وهم التوازن أو التوازن النسبي قد خلق هامشاً مهماً في الساحة السياسية اللبنانية بعامة، لم يعرف له المشرق العربي مثيلاً؛ فقد ظلت لبنان على مدى نصف القرن الماضي واحة للديمقراطية، بلد الحريات الصحفية، واستطاعت الصحافة اللبنانية أن تمثل مدرسة في حرية الرأي والتعبير قل نظيره عربياً وفي العديد من بلدان العالم الثالث، وهذا سر مقدرته (أي لبنان) على المقاومة والتحدي, وانتصاره المتكرر ضد إسرائيل وحلفائها.
كانت الحرب الأهلية شاهد فشل وفساد التحاصص الطائفي. والحقيقة أن التشظي والانقسامات الحقيقية تتوزع اللبنانيين لا على أساس طائفي و لا على الهوية العرقية أو الجهة؛ فالموالاة تشمل أو تضم العديد من أقطاب كل الطوائف والاتجاهات السياسية والفكرية المختلفة. كما هو الحال في صفوف المعارضة السياسية. فهناك من أقطاب السنة في صفوف المعارضة: اليافي، كرامي, سليم الحص، كمال شاتيلا، وقليلات، ومصطفى سعد، وعشرات غيرهم. وهناك من أقطاب المورانة: ميشيل عون, و سليمان افرنجية, ولحود. ومن الدروز: طلال أرسلان و إيهاب وهاب. وحتى الطائفة الشيعية يوجد فيها أكثر من اتجاه مع الموالاة ومع المعارضة. لقد جرت تحولات عميقة في المجتمع اللبناني. فهذا البلد الذي اجتاحته إسرائيل في 5 حزيران 1981 بعد حصار بيروت أكثر من سبعين يوماً، استطاع في العام 2006 أن يُلحق أكبر وأهم هزيمة بإسرائيل في مواجهة لأكثر من ثلاثة أشهر في أطراف الحدود. وقد وجه ضربات موجعة للداخل الإسرائيلي وللقيادة الإسرائيلية الجديدة. وعبر السبعينات والثمانينات تصدى للمواجهة مع الدولة الصهيونية، وقاتل أبناؤه في الدفاع عن القضية الفلسطينية والحق العربي، وتعرض لاحتلال إسرائيلي ومن قوات الانتشار السريع، واستطاع خلال زمن قياسي إلحاق الهزيمة بقوات المارينز والانتشار السريع. كما أنه وبنضال الحركة الوطنية، وحزب الله بخاصة، تمكن من دحر إسرائيل مرتين.
 واقع الحال الآن في لبنان بعد مقتل الشهيد رفيق الحريري قد أدى إلى تدخل دولي تشارك فيه بفاعلية وبقوة عدة دول أوروبية وغربية وبالأخص فرنسا وأمريكا، وخلق أغلبية من مختلف الطوائف، وأدى إلى خروج سوريا, و انحسار دورها ظاهرياً على الأقل.
و يجري التجاذب الآن من حول المحكمة الدولية التي وإن سلم بها الجميع إلا أن الخلاف يكمن في التفاصيل التي غالباً ما يسكنها الشيطان. كما يجري التجاذب حول رئاسة الدولة ورئاسة الوزراء ومشاركة أطراف أخرى من المعارضة في الحكومة؛ ففي حين تصر الموالاة على أولوية المحكمة الدولية, وتغيير الرئاسة الموصومة بالولاء لسوريا؛ فإن المعارضة تطرح قضية حكومة وحدة وطنية تحقق التوازن وتعيد النظر في قانون الانتخاب.
وجلي أن النزول إلى الشارع قد بدأ فعلاً، وأن تنازلات مشتركة مطلوبة من كل الأطراف، فالوضع الدولي في لحظات شديدة الخطورة والتوتر، والمحيط أو الوضع العربي والدولي هو الآخر منحاز وإن كان التململ الشعبي يميل لصالح المعارضة التي تضم أطرافاً قوية من كل الطوائف الرئيسة والأحزاب والاتجاهات الفكرية و المدنية.
 وتبقى خطورة المواجهة قائمة بدرجة كبيرة. فهناك أطراف مغامرة في الاتجاهين: الموالاة والمعارضة.
و يقيناً فإن أي مواجهة في لبنان هي لمصلحة إسرائيل التي تحرص على الاستمرار في تهديد جوارها. ومهما يكن فإن الاحتمال الراجح أو المتمنى، أن يتوافق الجميع على تجنيب لبنان شبح الحرب الأهلية، وأن يقبل الجميع بتغيير أسس اللعبة الديمقراطية القائمة على التوازن الطائفي الذي غيب الإرادة الشعبية الحقيقية، ولم يعد مقبولاً من غالبية الشعب اللبناني.