بارومتر الشعوب.. كرة القدم والسلام العالمي

بارومتر الشعوب.. كرة القدم والسلام العالمي

- طلال سفيان
كثيراً ما تصاحب مباريات كرة القدم، عملية شد وجذب وحساسيات، تُعَد جزءاً لا يتجزأ من أجواء ملاعب المستديرة الساحرة، وأصبحت بفضلها اللعبة عامل توتير وتعكير للعلاقات بين الدول والشعوب، هذا إن لم تكن خط انتاج آخر ضمن الخطوط المؤججة للعنف التي تصب الزيت على نار هستيريا التعصب القومي ونزعة إقصاء الآخر، اللذين يعاني منهما عالمنا اليوم الأمرين.
وإذا عدنا إلى الوراء قليلاً مع اللعبة وسوابقها التاريخية، سنجد ان جميع انواع المنافسات الرياضية كانت ممنوعة بشكل صارم في إنجلترا خلال القرون الوسطى بحجة أنها مثيرة للقلق. وعلى النقيض من ذلك، نجد الفرنسيين، الذين ينتمي اليهم البارون «دوكوبرتان» مؤسس (الفيفا) والذين ما كادوا يفيقون من هزيمتهم في حرب 1870، حتى أوصوا بتكثيف الأنشطة الرياضية في صفوف الشباب، كنوع من الإعداد الضمني للمجهود الحربي.
كما يتعزز لدينا اكثر الشعور بدواعي النزعة الوطنية المتحمسة وأبعادها الرمزية، بنزعتها الحربية العنيفة المترسبة والمتجلطة في لغة وخيال عالم كرة القدم، وذلك من خلال تأملنا لأكثر لحظات كرة القدم طقسية ورمزية، كعزف النشيد الوطني ورفع الاعلام أو صور الزعماء في مدرجات الملاعب في الوطن العربي قبيل انطلاق المباريات. هذا إضافة إلى جهاز العنف « المفهومي» المتفشي في لغة التعليق الرياضي، كوصف تعليقي لبداية اللقاءات بـ«إنطلاق المواجهة» ولمحاولة الوصول إلى مرمى المنافس بأنها «قصف مركز» و«ضربة قاضية» و«فجرت» من خلالها «الكتيبة» المهاجمة «دفاع» الخصم، كما يطلق وبكل بساطة على التسديدات الاكثر قوة بأنها «صواريخ» عابرة للقارات.
بؤرة توتر
العنف الكروي وعلى مستوى الرموز اللفظية، ترجم لمرات عديدة على أرض الواقع، كانت أبرزها واشهرها «حرب كرة القدم» التي اندلعت على جبهات حقيقية عام 1969 بين دولتي هندوراس والسلفادور الواقعتين في أمريكا الوسطى، على خلفية مباراة كرة قدم حاسمة بين منتخبي الدولتين في التصفيات المؤهلة لكأس العالم التي استضافتها المكسيك عام 1970. كما توقظ مباريات كرة القدم الكثير من الحساسيات والعداوات البعيدة، لتعود معها أشباح ماضي الزمن الذي يتمنع عن مغادرة الذاكرة، وذلك ما حصل خلال اللقاء النهائي في كأس آسيا 2004 الذي جمع منتخبي الصين واليابان في مشهد تراجيدي للجمهور الصيني المتواجد في ساحات الملعب وفوق المدرجات وهم يرتدون الزي العسكري لجنود الاحتلال الياباني الذي غزا الصين في الثلاثينات، في رسالة أبلغ من أن تفسِّر، وجَّهها الجمهور الصيني لنضرائهم اليابانيين على المدرجات وأمام شاشات التلفاز في الاستعداد لمواجهة الغزاة، كما قام الالاف من الجمهور الصيني بالتلويح في مدرجات الملعب بلا فتات ممهورة بالرقم (300.000) في إشارة إلى عدد المدنيين الصينيين الذين قتلهم جيش الغزو الياباني عام 1937.
ليست وحدها كرة القدم من تتحمل مسؤولية تعكير صفو العلاقات الدولية، حيث يقع اللوم بشكل أساسي على حالة التأزم التاريخي المأساوي الطويل العريض الذي لم تعطه الكثير من دول العالم ما يستحقه من اهتمام وفحص لتجاوز آثاره على المدى المستقبلي، ظناً منهم أنه صفحة قد طويت.
مغادرة الذاكرة
تعد اللقاءات الكروية الدولية مجرد تعبير مصاحب لاحتقان مستديم، إلى جانب أنها تسجل العديد من المواقف الايجابية والرمزية الراقية التي تمكنت فيها الساحرة المستديرة من تسجيل اختراقات وانجازات أكثر ما سجلته خطب السياسيين الطويلة، خاصة في اكثر النزاعات والبؤر العالمية المتوترة حدة وتعقيداً، حيث تجسدت بصورة ايجابية في كأس العالم الأخيرة في ألمانيا، والتي تمثلت في حالة كوت ديفوار، كدرس للقادة العاجيين ليتعلموا الكثير من لاعبي منتخب بلادهم، الذين نسوا بعد تأهلهم مباشرة للمونديال انتماءاتهم إلى شمال أو جنوب البلاد المنقسمة على نفسها إلى شطرين متناحرين. ونفس الشيء ينطبق على المنتخب البرازيلي كسفير فوق العادة للترويج لمهمة قوات التدخل الأممية التي تقودها البرازيل في هاييتي منذ سقوط نظام ارستيد هناك، كما يسجل تاريخياً بإقامة مباراة لكرة القدم كأول حدث تشهده العاصمة الأفغانية كابول بعد أن وضعت الحرب أوزارها.
كما سمح التنظيم المشترك لنهائيات كأس العالم 2002 لكل من اليابان وكوريا الجنوبية، بتسريع خطى المصالحة التاريخية بينهما، ودلالة التصفيق الحار الذي لقيته إنجازات اللاعبين الكوريين الجنوبيين على الخط الآخر من خطوط التقسيم في كوريا الشمالية. كما تعد مباراة الولايات المتحدة وإيران التي جرت في مونديال 1998 في فرنسا إحدى لحظات التآخي الانساني بين الفريقين والجمهور على المدرجات.
لقد ظلت الرياضة وعلى الدوام بمثابة «بارومتر» يعكس صورة اكثر سلمية وخيالاً مثالياً حياً للمبادرة، والتي عكسها البرازيلي «جواو هافيلانج» الرئيس السابق «للفيفا» والذي صرح ذات مرة عن حلمه بتنظيم لقاء كروي يجمع المنتخبين الفلسطيني والاسرائيلي، كما شاركه ايضاً في هذا الحلم/ المبادرة، نائب الرئيس الامريكي السابق «آل جور»، الذي اعتبر هذه المبادرة كخطوة مساعدة لواشنطن في جهودها الرامية إلى حل النزاع الفلسطيني الاسرائيلي، بمفهوم رياضي يحمل اسهام لقاء كروي لم ير النور في لعب دور رئيسي في عملية السلام في الشرق الأوسط الذي مازال معلقاً هو الآخر بالفشل.