المعارضة وسياسة ما بين الحدين

المعارضة وسياسة ما بين الحدين - د. ناصر محمد ناصر

أقصد بمفهوم «ما بين الحدين» الحد الأدنى الذي رأت المعارضة أنه تمثل في ورقة الضمانات، والأمر الواقع الذي سلمت بموجبه بنتائج الانتخابات. هذان الحدان الزائفان هما اللذان أفقدا المعارضة مصداقيتها. والواقع أن شرك الحدين هذا ما كان للمعارضة أن تقع فيه، فمن البديهيات أن لا تثق في نظام خبرت طويلاً افتقاده إلى الحد الأدنى من المصداقية. ومن جهتي لم أشك في هذه البديهيات على الإطلاق وكنت قد تنبأت بنتائج الإنتخابات سلفاً وقبل حدوثها بأشهر، وكتبت عدة مقالات أكدت فيها أن عوامل حسم نتائج الإنتخابات تتمثل في: المال، والإعلام، والجيش والأمن والنفوذ، واللجنة العليا للانتخابات. وقلت بأن هذه الأوراق الخمس مجتمعة بيد الحاكم، وهي التي ستقرر النتيجة سلفا. ونصحت قادة المشترك بعدم الدخول في معركة نتائجها معروفة سلفاً، واقترحت عليهم أن يخيروا النظام بين الشروع في التعديلات الدستورية التي نصت عليها وثيقة إصلاح المشترك قبل الانتخابات أو أن يتركوه ويدعوه يذهب إلى انتخابات منفردة ومنزوعة الشرعية، لكنهم كانوا مندفعين للمشاركة في تلك المسرحية الهزلية.
والآن وبعد ان تمت انتخابات الحدين أرى أنه لم ينتج عنها سوى تجديد الشرعية لنظام فاسد من قبل معارضة لم تبرع إلا في خذلان الجماهير. أما خسائر المعارضة فتمثلت في الآتي:
1 - فقدان الثقة فيها من قبل الجماهير التي راهنت عليها، سيما وأنها سلمت بنتائج تلك الإنتخابات سريعاً قبل أن تكتمل عملية الفرز، على الرغم من الجرائم الجسيمة التي صاحبتها.
2 - تساقط رموزها الواحد تلو الآخر وذلك على النحو التالي:
- الأول فتح باب الجامعة التي يديرها وجعل منها منبراً للحاكم يضرب بها قواعد الحزب المعارض الذي ينتمي إليه وعلى خلاف قناعاته، أراد أن يحمي رأسه ولا يهمه بعد ذلك لا حزب ولا مبدأ ولا وطن، أنا ومن بعدي الطوفان، كيف يقنع شخص كهذا أنصاره بالتضحية بأنفسهم والإستماتة في سبيل المبدأ وهو يمثل هذا الضعف و الخواء؟ أين مصداقيته؟
- الثاني صرح من الخارج بأنه سينتخب الحاكم في حين أنه يقف على رأس أكبر حزب معارض. المسألة واضحة بالنسبة ل: مصالحي وتجارتي وأملاكي وأولادي وبعد هؤلاء فليذهب الحزب والوطن إلى الجحيم.
- أما الثالث فقاوم إلى أن ظهرت نتيجة الانتخابات ثم هرول إلى التسليم بها كأمر واقع قبل أن تتم عملية الفرز. ولم يكتف بذلك فحسب، بل إنه على طريقة الحكام العرب أخذ بفلسفة الهزيمة محولاً إياها إلى نصر غير مسبوق. تلاشت الرصانة وتحول الهدوء إلى صوت غراب ناعق ناعياً رجالات اليمن ومستقبل اطفالها وأجيالها. كيف يستطيع الرجل ان يبرر موقفه هذا امام ناخبيه؟ وما الذي يجبره على كل هذا الإنحناء؟ ترى ماذا بقي له من مصداقية؟
- أما الرابع فقد شطح به الخيال لدرجة أنه وضع سيناريو لتسليم السلطة قبيل يوم الاقتراع أتحف به صاحبة الجلالة، وما أن أعلنت النتيجة حتى تحول إلى مفلسف ومنظر للهزيمة، كيف حدث ذلك؟ ولماذا؟
- أما الخامس صاحب الصوت والنبرة العالية في مقارعة النظام والذي لا أرغب في تحديده فقد لاذ بالصمت المطبق فور إعلان النتيجة كفأر منزوِ في ركن قصي تتربص به القطط والسموم والمصايد والأفخاخ وأحذية وهراوات القاطنين.
والآن وعقب تلك المهزلة التي سموها انتخابات بات على قادة المشترك العودة إلى نقطة الصفر وإلى المربع الأول وهو عدم القبول بالمشاركة في الانتخابات البرلمانية القادمة قبل إقدام النظام على إجراء تعديل دستوري يسفر عن الآتي:
1 - فك الإرتباط بين الأسرة والمؤسسة العسكرية وتحويل تبعية الأخيرة لمجلس الوزراء، فلا ديمقراطية ولا تعددية مع بقاء أسرة تنهب الوطن وتجيع الشعب وتخطط لحكم ملكي وراثي.
2 - تحويل النظام الرئاسي المسخ القائم إلى نظام برلماني كامل يسفر عن تحديد صلاحيات منصب الرئاسة بتجريده من كل وسائل وأدوات التزوير والسطو على المشروعية، ويحيل كل تلك الصلاحيات إلى حكومة منتخبة مسؤولة أمام مجلس نيابي منتخب.
3 - حل كل من اللجنة العليا للانتخابات ووزارة الإعلام، وكسر احتكار الدولة للإعلام المرئي والمسموع، واستقلالية القضاء وتبعية الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة لمجلس النواب.
سيقولون أن هذا ضرب من الخيال لن يتحقق منه شيء. أعرف ذلك سلفاً ففي ظل النظام القائم قد لا يتحقق الكثير، وأعرف أن الأهم منه هو أن على المعارضة التي تمتلك ورقة المشروعية الشعبية والتي جيرتها للنظام عبر تلك المهزلة التي سمتها انتخابات أن ترنو ببصرها نحو اقتلاع النظام لا الاستظلال بظله والتطلع إلى ما يمنّ به، وأن تختار الان بين موقف صلب ومعارضة حقيقية لا تخدع ولا توهم الجماهير بوجود هذا المسخ من الديمقراطية المدجنة التي لا تسفر إلا عن تضليل الناس وتزوير إرادتهم وإضفاء المشروعية على نظام فاسد يفتقد إلى الرشد والرؤية معاً، ولا يرى أكثر من مصالحه الشخصية في تكديس الثروة، وهو الشرط الضروري للمعارضة لاستعادة مصداقيتها كمعارضة تتصدر الجموع نحو هدف التغيير أو السير في الطريق الذي تسير فيه الآن والتمسك بدور المحلل للنظام ورفع شعارات الوهن والضعف والهزيمة والاستسلام، كشعاري الحد الأدنى والأمر الواقع، وإيهام نفسها بانتصارات مزيفة، وبالتالي فإن مصيرها لن يكون أفضل من مصير النظام الذي تسعى إلى زواله إذ أن زوالهما سيكون معاً.