من لا يفهم التاريخ لا يصنع المستقبل

من لا يفهم التاريخ لا يصنع المستقبل

باسم الشعبي
التاريخ باعتباره الماضي، ومن لا يهتم بالماضي ويكون فكرة عنه لا يستطيع أن يبني المستقبل.
لقد شدني لذلك رسالة بعث بها أحد الزملاء تقول إن عدداً من النواب في البرلمان اليمني أرادوا من خلال أسئلتهم لفت نظر وزيرة الخارجية الأمريكية أثناء زيارتها لبلادنا مؤخرا إلى قضية الجنوب.. فردت عليهم بأنها لا تفهم في التاريخ.
وإذا ما افترضنا أن كلينتون تقصد بالتاريخ هو أن اليمن كان عبارة عن دولتين في الجنوب والشمال، وبالتالي فهي تحاول الهروب من ذلك بادعاء عدم الفهم، فذلك يكشف جليا أن أمريكا ليست حريصة بما يكفي على أمن اليمن واستقراره بقدر ما هي حريصة على استمرار النظام القائم الذي أخذت تتحدث بلهجته، والذي في واقع الحال يقود البلاد إلى المجهول، ويرفض أي حلول من شأنها تطبيب الوضع وإيجاد مخارج مناسبة له.
إن الأنظمة التي تتجاهل التاريخ أو الماضي، أو تسعى إلى دفنه أو اختيار منه ما ينمي مصالحها في البقاء، تبدو الآن كما لو أنها عجزت عن بناء حاضر يتكئ على أرض صلبة، قادر على الاستمرار بما يلبي مصالح شعوبها، وبالتالي لا يضرها في شيء إن هي كشفت وبكل وضوح عن عجزها في الذهاب إلى المستقبل إلا وهي محملة بموروثات الماضي والحاضر معا، وهذا بحد ذاته كافٍ لمضاعفة القلق لدى الشعوب وإحساسها بأنها تسير نحو المجهول.
ولأن تاريخنا أو ماضينا مليء بالصراعات والتطرف والنزق السياسي.. علينا أن نعترف بذلك لا لمجرد المكاشفة أو المناكفة، وإنما للوقوف بكل وعي على الأسباب الحقيقية والموضوعية التي صنعته لأخذ العبر والدروس تحاشيا للوقوع في مزالقه مرة أخرى، فنجد أنفسنا أمام الماضي الذي نحسبه مستقبلاً.
إن تجاهل الماضي أو التظاهر بعدم فهمه هو بمثابة هروب من استحقاقات الحاضر والمستقبل، إذ لم يكن تاريخنا كله سيئاً. لقد كانت هناك قسمات ولمحات حية وإيجابية ما تزال تحرك لدى كثيرين هواجس التعلق به والعودة إليه. ومن هنا يتضح أن المقصود بعدم الفهم ليس تجاهل السلبي منه فحسب، وإنما الإيجابي أيضا مع أن من يقول بذلك يدرك حاجتنا للاثنين معا.
إن الانتقاء الذي تمارسه بعض القوى من الماضي بما يلبي حاجتها ورغبتها يتطلب وقفة مسؤولة لمعرفة دوافعها، لأن ذلك في جوهره يؤخر تقدمنا نحو المستقبل، ويمنح تلك القوى الأحقية في التحكم بماضينا وحاضرنا وربما مستقبلنا.
وفي تقديري إنه إذا ما أردنا أن نساهم في إيجاد حلول لحاضرنا ومستقبلنا، علينا أن نسأل أنفسنا بتجرد وصدق الأسئلة التالية:
- لماذا تريد قوى الحراك الجنوبي أن تعود بنا إلى الماضي؟
- لماذا تصر السلطة على أن تجعلنا نعيش في الماضي؟
- لماذا المعارضة (اللقاء المشترك) غير قادرة على أن تذهب بنا صوب المستقبل؟
- لماذا الجماهير استسلمت لهذا الواقع وتعاطت معه رغم إدراكها أنه كارثي؟
لا أعتقد أني سآتي بجديد في الإجابة على تلك التساؤلات، ولكن ما يهمني هنا هو الاستنتاج في المحصلة النهائية لاستنباط حلول أو رؤى جديدة، أو تدعيم مشروعات وحلول قائمة نرى أنها تصلح لإنقاذ السفينة من الغرق.
الإجابة على السؤال الأول: يريد الحراك الجنوبي العودة بنا إلى الماضي أو إلى التاريخ لأن السواد الأعظم في الجنوب عجزوا بعد عقدين من الوحدة اليمنية ومنذ ما بعد حرب صيف 94 تحديدا، أن يجدوا تطلعاتهم في الوحدة التي حلموا بها وناضل من أجلها رجالاته ومن سبقهم منذ ثورة 14 أكتوبر التي زرعت البذرة الأولى للوحدة وحتى اليوم.
فهم يبررون حراكهم ودعوتهم بالعودة إلى الماضي التشطيري بقولهم إن الوحدة التي قامت على الشراكة تم القضاء عليها في حرب 94، وبالتالي فإن نزوعهم إلى الماضي يأتي بسبب فقدانهم الأمل في الحاضر والمستقبل في ظل النظام القائم، لذلك فهم يبحثون عن الدولة التي يحلمون بها حتى ولو جاءت عبر التشطير، مع أني أكاد أجزم أنهم لو وجدوا هذه الدولة في ظل الوحدة لما فكروا بشيء اسمه الانفصال أو فك الارتباط.
إذن، لا بد من تفهم مطالب أبناء الجنوب أو قوى الحراك بدلا من البحث عن مبررات لضربهم من قبيل أن "هؤلاء فقدوا مصالحهم"، مع أن ما تقوله السلطة صحيح، فهم فقدوا مصالحهم في ظل غياب دولة القانون والعدل والمساواة، وبالتالي ليس غريبا أن يشدهم الحنين إليها مهما تكن النتائج.
الإجابة على السؤال المتعلق بالسلطة: السلطة لا تريد أن تغادر الماضي ولا الحاضر الذي أصبح بالنسبة للناس ماضيا، فهي تعيد إنتاج الماضي بأدوات الحاضر، وتخاف من المستقبل، إلا أنها لا تمتلك الأدوات الفعلية والعملية التي تؤهلها إلى إنتاجه بالشكل الذي يلبي حاجة وتطلعات الجماهير في الشمال والجنوب، وبالتالي فإن محاولة إنتاج المستقبل الذي تراه أو الحد من المخاوف التي تراودها بشأنه بالقوة أثبتت فشلها على الواقع، إذ إنه لا يمكن لسلطة أن تصنع المستقبل المأمول في الوقت الذي ما تزال هي نفسها تعيش في الماضي أو تستخدم أدواته، ويعد الاستمرار في ذلك نوعا من العبث، وهدرا للوقت والإمكانات والطاقات.
إن أية سلطة تحتكر المستقبل لنفسها مثل احتكارها للحاضر والماضي، لا يعول عليها فعل شيء، لأن من يعجز عن إيجاد حاضر سوي سيعجز بالضرورة عن صناعة مستقبل أفضل، لذا عليها أن تسلم (المفاتيح) أو تقبل بالشراكة.
الإجابة على السؤال الثالث: عجزت قوى المعارضة التي نراها تحمل توجها معتدلا ووسطيا عن الذهاب بنا صوب المستقبل لعدة أسباب:
- أولا: لأنها تقع بين قوتين تريدان فرض مشاريعهما بالقوة، واستطاعتا بفعل ما تمتلكانه من إمكانات وتمركزهما في المكان، إضعاف حضورها وتأثيرها.
- ثانيا: عدم امتلاك الجرأة للخروج للشارع وقيادة الجماهير.
- ثالثا: كثيرون يعتبرون المعارضة جزءاً من النظام القائم لا سيما في الجنوب، وبالتالي عملوا وحرضوا على مقاطعتها مع أن في ذلك ظلماً كبيراً في تصوري.
- عدم التوصل إلى رؤية أو مشروع سياسي واحد، فهناك عدة مشاريع يتم تداولها تبدأ بالحكم المحلي وتنهي بالدولة الاتحادية أو الفيدرالية.
الإجابة على السؤال الرابع المتعلق بالجماهير: استسلمت الجماهير للواقع أو فلنقل تعايشت معه عاجزة عن الانتقال به إلى مستوى التحدي الحقيقي لخلق تحول يستجيب لتطلعاتها نحو المستقبل، لعدة أسباب:
- شعورها بالغبن والإحباط من جراء السياسات الحكومية المتلاحقة التي وسعت من رقعة الفقر والبطالة، ونمت فيروس الفساد الذي قضى على حلمها في الحصول على تعليم وتطبيب وسكن وعدل وأمن، وبالتالي إشغالها بذاتها وشل فعاليتها.
- القبضة الأمنية المشددة التي تفرضها السلطة على الاحتجاجات والمظاهرات والتجمعات السلمية.
- فقدان البعض الأمل في الأحزاب القائمة واعتبارها من الماضي، أو أنها -أي الجماهير- تبحث عن التغيير خارج العملية الديمقراطية.
- تردد البعض في الالتحاق بالحراك بسبب تشدده في الدعوة إلى الانفصال والتجزئة، وبسبب الخلافات والتناقضات التي تبرز في داخله أحيانا، ومحاولات السلطة المتكررة جره إلى العنف وتشويهه، رغم أن الحراك في الجنوب يمثل بارقة أمل للتغيير الشامل، وما يزال لو أحسن استغلاله، ويعتبر أهم وأبرز حركة احتجاجية سلمية في التاريخ العربي المعاصر حتى الآن.
- عجزها عن إنتاج بديل موضوعي يفتح الباب أمام الجميع، ويستوعب كل المتناقضات والتطلعات، ويعمل على صياغتها وبلورتها لخدمة هدف مشترك على أن يكون ذلك حزبا أو حركة أو جبهة.
- ظهور لجنة الحوار الوطني كان من ضمن الحلول التي حاولت استيعاب قدر ممكن من الجماهير والكوادر في الجنوب والشمال، وصياغة تطلعاتهم لإنجاز مشروع سياسي ووطني مشترك يتواكب مع المرحلة، إلا أنها واجهت صعوبات بفعل عراقيل السلطة، كما أنها عجزت عن تحقيق اختراق مهم في صفوف الحراك بسبب الأحكام المسبقة لدى البعض، والمطلوب هو ألا يؤدي ذلك إلى خوفتها وشل نشاطها وفاعليتها حتى لو استدعى الظرف إحداث تغيير في بنيتها أو توسع في أنشطتها وبرامجها.
- عدم وجود قائد أو زعيم يمتلك رؤية أو مشروعاً موضوعياً وعملياً تلتف حوله الجماهير وتسير به نحو تحقيق التغيير السلمي والحضاري المنشود، رغم أن تاريخنا يحفل بعدد غير قليل من التجارب على مستوى العمل النقابي والتطوعي واللجان الشعبية وغيرها التي لعبت دورا في الماضي وبإمكانها أن تلعب دورا مهما في الحاضر والمستقبل.
وفي تصوري إن التأخير في ظل سوء الوضع وتدهوره بسبب العنف والفقر والتردي الأمني والاقتصادي لا يخدم عملية التحول والتغيير، لذلك لابد من البحث عن حلول تلقى نوعا من التوافق، وتسعى أطرافها إلى تقديم تنازلات للجلوس على طاولات الحوار، أو الاستمرار في النضال السلمي لتحقيق التغيير من خلال العملية الديمقراطية، أو أن تدهور الأوضاع وإفراط السلطة في توظيف الأدوات الأمنية قد لا يسعف ويدفع بالأمور للتوتر وخروج المظاهرات في المناطق والمدن اليمنية لإجبار النظام على الاستقالة أو التنحي، رغم أن الجماهير لا تفضل ذلك في ظل تباعد المسافة بين الحراك وقوى المعارضة على الرغم من أن كل شيء ممكن الحدوث.
Hide Mail