تمثال الروح الضالة – الكاتب ساكي(1)

تمثال الروح الضالة – الكاتب ساكي(1)

قصة قصيرة
ترجمة/ هدى جعفر
كان هناك عدد من التماثيل المنحوتة على مسافات من بعضها البعض بمحاذاة إفريز الكاتدرائية القديمة، بعضها كان لملائكة، والبعض الآخر لملوك وأساقفة، وكان الكل في وضع يمثل التقوى، أو التمجيد أو رباطة الجأش، ولكن تمثال واحد فقط -يقع في الجزء الشمالي البارد من البناء- لم يكن له تاج، أو قلنسوة أو حتى هالة نورانية، كان وجهه قاسيا تعلوه المرارة والاكتئاب، "لا بد أنه شيطان" قالها الحمام الأزرق الذي كان يعشش ويتشمس طوال اليوم على حواف الإفريز، ولكن غراب برج الكاتدرائية القديم، والذي كان حجة في البناء الكنسي، قال إنه تمثال الروح الضالة، وهنا تكمن القصة.
في يوم خريفي حط على سقف الكاتدرائية طائر رقيق عذب الصوت، مبتعدا عن الحقول المحصودة والسياجات الشجرية المتفرقة، باحثا عن مأوى يقضي فيه الشتاء، حاول أن يريح جناحيه المتعبين تحت ظل واحد من تماثيل الملائكة المجنحة، أو يأوي تحت الطيات المنحوتة لأحد الثياب الملكية، ولكن الحمام السمين كان يبعده أينما وقف، وقامت عصافير الدوري ذات الصوت المزعج بطرده بعيدا عن الإفريز، زقزقت إحداها للأخرى "لا يوجد طائر يستحق الاحترام يغرد بهذا الكم من المشاعر"، ومن ثم كان على ذلك الهائم أن يرحل.
وحده تمثال الروح الضالة قدم مكانا للطائر المتشرد، إذ ارتأى الحمام أن الإقامة عنده ليست آمنة كونه يميل بشكل كبير عن الجدار العمودي، بالإضافة إلى أن الظلال تغطيه أكثر من اللازم، لم يكن التمثال يموضع يديه متمثلا التقوى مثل باقي كبار الشخوص المتجمدة، بل كانتا معقودتين وكأنه في وضع دفاع عن النفس، وكانت زاويتهما تمثل ملجأ صالحا للطائر الصغير، وكل ليلة كان ينسل بثقة نحو ركنه الواقع في الثنايا الحجرية لصدر التمثال، التي كانت عيناه المظلمتان وكأنهما تحرسان الطائر خلال سباته الخفيف، كان حب هذا الطائر الوحيد يزداد لحاميه الوحيد، وخلال اليوم كان يقف من وقت إلى آخر على الوعاء الخاص بتجميع المطر أو إحدى دعامات المكان ويصدح بموسيقاه العذبة في امتنان عميق لمأواه الليلي، وربما حدث ذلك بفعل الرياح أو الطقس أو أي عوامل أخرى، ولكن وجه التمثال الموحش البائس بدا وكأنه تخلص من بعض قسوته وحزنه.
كل يوم وخلال الساعات الطويلة المملة، كان الضيف الصغير يغني في أوقات متقطعة أمام مشاهده المنفرد، وفي الليل عندما يدق جرس الشماس وتخرج الوطاويط الرمادية الكبيرة من مخابئها من سقف البرج، يعود الطائر ذو العينين اللامعتين ويغني بعضا من النوتات الناعسة، ثم يختبئ في الذراعين اللتين كانتا بانتظاره.
كانت تلك أياما سعيدة لذلك التمثال الحزين، فقط كان جرس الكاتدرائية الكبير يدوي برسالته اليومية الساخرة "بعد البهجة... لابد يأتي البؤس".
لاحظ القوم المقيمون في كوخ الشماس أن هناك طائرا بنيا صغيرا يرفرف في حرم الكاتدرائية، وقد أعجبوا بصوته أيما إعجاب، ولكنهم رأوا في ذلك خسارة، كل هذا التغريد سيضيع في الإفريز دون أن يسمعه أحد، لقد كانوا فقراء ولكنهم على علم بمبادئ الاقتصاد السياسي، ولهذا قاموا بصيد الطائر ووضعوه في قفص مجدول على باب كوخهم.
غاب المغني الصغير عن مسكنه المعتاد في تلك الليلة، كان التمثال الحزين يعرف أكثر من أي شخص آخر مرارة الوحدة، ربما قتل قط متجول صديقه الصغير، ربما ضربه حجر... ربما... ربما رحل إلى مكان آخر.
ولكن في صباح اليوم التالي تناهى إلى أسماع التمثال وسط هرج القوم في الكاتدرائية، رسالة خافتة الصوت تقطع نياط القلوب من سجين القفص المجدول في الأسفل البعيد.
وعندما تتوسط الشمس السماء من كل يوم، وعندما كان الحمام السمين يتخدر صامتا بعد وجبات الغداء، وتقوم العصافير بالاغتسال في برك الشوارع، كانت تصل أصداء أغنية الطائر الصغير إلى السقف، كانت أغنية جوع وتوق وانعدام الحيلة، كانت توسلاً لم يستجب له أحد. وقد علق الحمام –ما بين الوجبات- بأن التمثال قد مال إلى الأمام أكثر من أي وقت مضى.
في أحد الأيام توقف التغريد القادم من القفص المجدول، كان ذلك في أكثر أيام الشتاء برودة، وكانت عصافير الدوري والحمام ينقبون بخوف في الأرجاء بحثا عن فتات الطعام التي كانوا يعتمدون عليها أيام الطقس الرديء.
سألت إحدى الحمائم صديقتها التي كانت تبحث في الجزء الشمالي من الإفريز عن "هل رمى أحد قاطني الكوخ أي شيء في القمامة؟"، جاءت الإجابة "لا شيء هناك سوى طائر صغير ميت".
في الليل سمع صوت طقطقة قادمة من سقف الكاتدرائية ثم ضجة عالية وكأنه صوت سقوط بناية ما، قال غراب برج الكنيسة -كونه خبر مثل هذه الحوادث كثيرا- إنه الجليد الذي أثر في نسيج البناء، وفي الصباح وجد تمثال الروح الضالة قد وقع من ركنه المزخرف مكونا كومة حطام خارج كوخ الشماس.
بعد أن بحث الحمام السمين الموضوع لبضع دقائق، هدلت إحداها "ما أحسنه من صنيع، حان الوقت أخيرا ليكون لدينا ملاك جميل، حتما سيضعون ملاكا هناكـ".
دوى جرس الكاتدرائية القديم: "بعد البهجة.. لابد يأتي البؤس".
[1]   هكتور هيو مونرو(  1916-1870  ) كاتب بريطاني مولود في بورما(ميانمار حاليا)، يعتبر بأنه سيد القصة القصيرة، يقال أنه اختار اسم شهرته من كلمة (ساقي) العربية و التي قرأها في رباعيات الخيام (المترجمة).