أسلحة الدمار الشامل

أسلحة الدمار الشامل

عبدالباري طاهر
من السذاجة الاعتقاد أن صدام حسين أول مخترع لكيماوي الاستبداد المزدوج، وهو مزج القبلية بالعسكرة بالتدين الزائف، فهذا الثالوث الشرير سلاح الطغاة والمستبدين منذ فجر التاريخ.
قد يكون لصدام بصمته الخاصة كما يؤكد باحث مهم "فالح عبدالجبار". ولكن أسلحة الدمار الشامل: القبيلة والعسكرة وأسلمة السياسة، كلها أسلحة أجاد استخدامها طغاة الأرض في مراحل الفشل والانهيار، أو كإيذان بالانهيار.
قُتل السادات وسط منصة الاحتفال بعيد الانتصار في أكتوبر على إسرائيل، بسلاح أسلمة السياسة، وتحويل الدين "البراء" إلى أداة قمع وتنكيل ضد معارضيه السياسيين، وبنفس السلاح هزم الإمام "أمير المؤمنين" جعفر محمد النميري، وهو السلاح الذي قتل به خصومه السياسيين، وشنق به الشهيد الداعية الإسلامي محمود محمد طه. وقتل به ضياء الحق في باكستان على يد حلفائه "الإسلاميين"، وحتى الرئيس معمر القذافي الذي استخدم السلاح خارج الحدود دفع ثمناً باهظاً، وتعرضت حياته للخطر على يد حلفاء الإسلام السياسيين المشجعين خارج ليبيا. ولا ينكر أو يخفي النظام السعودي تبرمه وضيقه من تيار لعب دوراً رئيسياً في تربيته ورعايته، وهل ينسى النظام السعودي معركة الإخوان وفيصل الدويش وقتل المئات بل الآلاف منهم على يد عبدالعزيز آل سعود ضد حلفاء الأمس، وقد تجددت المعركة على يد القحطاني وجهيمان العتيبي في الحرم الملكي عام 79، ولا تزال الجراح تنزف.
تستطيع المملكة بلعبة العصا والجزيرة أن تسيطر على الملعب. كما تستطيع الثروة النفطية الهائلة شراء التغاضي الأوروبي والأمريكي بخاصة عن تحالف الدين والسياسة في المملكة. ثم، وهذا هو الأهم، تستطيع الدولة السعودية بقدراتها دفع الوباء خارج حدودها، وتشجيع التيار السلفي الجهادي على الانتشار والتمدد خارج حدودها.
أليس دالاً أن مقبل هادي الوادعي المنظّر المهم في حركة القحطاني وجهيمان، والمعتقل في السعودية، قد وجد الملاذ الآمن في دماج بدعم سعودي ويمني رسمي، وبتوافق سعودي يمني تنشأ مئات وآلاف المدارس ذات الصبغة السلفية الوهابية في طول اليمن وعرضها. يتزامن ذلك مع تكوين وإعلان "لجنة العلماء المرجعية" في اليمن، من قيادات دفعت بها السعودية واليمن إلى أفغانستان لتعود للجهاد ضد حلفاء الأمس.
تتعامل السعودية بذكاء مع هذه التيارات التي تمثل ركيزة أساسية في بناء الدولة السعودية، بينما يتسم التعامل اليمني بقدر من الانتهازية وفقدان الاتزان، لتكون الضحية والجلاد في آن! ففي حين تقوم المملكة بتصحيح مناهجها التربوية، والتضييق على التيار السلفي، وتشجيع الاتجاهات الحداثية والعقلانية، تنشئ السلطة اليمنية هيئات "إسلاموية" تجعل منها "ولاية الفقيه" بدون فقيه، أو هيئة أمر بالمعروف ونهي عن المنكر بمسميات مختلفة.
ويعرف الحكم واليمنيون والعالم أن أعظم مفكر في اليمن هو "الفقر الكافر" الناجم مباشرة عن الفساد والاستبداد الذي يأكل محصول البلاد كالجراد.
ليست اليمن بالبلد الفقير إلى ذلك الحد، وفيه من الموارد والخيرات ما يكفي لو كانت هناك إدارة صالحة ترعى مصالح شعبها وأمتها.
مأساة اليمن الوبيلة عصبيات ما قبل التاريخ. العصبية القبلية التي تضع نفسها فوق الدولة والنظام والقانون. وقد جرى عسكرة القبيلة لتصبح عصبية مدججة بسلاح الأمية والدبابة.
أما وقد اتجه الحكم إلى رفدها بالسلفية الجهادية لتدمير الداخل وابتزاز الخارج، فإن الكارثة تكون قد بلغت ذروتها.
العصبيات القبلية والتزمت الديني الذي مثله حكم آل حميد الدين هو المسؤول عن تخلف اليمن وتدهورها. وما يقوم به النظام الحالي هو تكريس العصبيات المقيتة، مضافاً إليها "عسكرة القبيلة"، ورفدها بعصبية مذهبية جهادية تكفيرية "لا تبقي ولا تذر".
يرى الدكتور جابر عصفور في كتابه "النقد الأدبي والهوية الثقافية"، أن "الأصولية تتحول إلى نزعة قمعية خالصة لا تتردد في ممارسة العنف العالي على خصومها عندما تعمل في حماية أو في خدمة دولة تسلطية تمارس العنف نفسه على كل المستويات. عندئذ تغدو الأصولية الوجه الفكري لهذه الدولة بالقدر الذي يتحول به الفكر الأصولي في فعل ممارسته إلى أداة من أدوات الدولة القمعية التي تمنحه شرعية الوجود ومبرر البقاء. ذلك ما حدث للأصولية الماركسية عندما أصبحت نزعة قمعية مع انتشار الجدانوفية التي كانت علامة على الدولة السوفيتية، وتجسيداً لأيديولوجيتها التسلطية".
فهناك دائماً علاقة عميقة ومتينة بين الاستبداد السياسي والديني. فحيث وجد أحدهما وجد الآخر، فالمفكر الإسلامي عبدالرحمن الكواكبي يرى بأن بين الاستبدادي السياسي والديني مقاربة لا تنفك متى وجد أحدهما في أمة جر الآخر إليه، ومتى زال زال رفيقه، وإن ضعف أي صلح أحدهما صلح الثاني". وشواهد ذلك كثيرة جداً لا يخلو منها زمان ولا مكان، وكلها تبرهن على أن الدين أقوى تأثيراً من السياسة. والحاصل أن كل المدققين السياسيين يرون أن السياسة والدين يمشيان متكاتفين، ويرون أن إصلاح الدين أسهل منالاً وأقوى وأقرب طريقاً للإصلاح السياسي.
إن السلطة، أية سلطة، تفقد سندها في المدينة والمجتمع المدني لابد أن تبحث لنفسها عن سند في الريف وقبائله. فمع تسلط العشيرة الكلي على السلطة يبدأ التفكك والانهيار. فالقبيلة، أية قبيلة، ليست عنصر توحيد عبر التاريخ، وهي رمز التفكك والانقسام والتشظي الدائم. المزج بين استبداد السياسة والدين وفساد أدواتهما المحركة، واستنادهما إلى العصبيات القبلية والطوائفية والجهوية هي السمة الرائسة لوضعنا الحالي. وقد سار في هذا الدرب الخطير العراق والصومال وأفغانستان وباكستان، وحالياً السودان ولبنان. وما الاهتمام شبه اليومي بالعسكر ورجال الدين ووجهاء وزعماء القبائل والمناطق إلا عودة بالدولة إلى عناصرها الأولى، ومثل هذا الصنيع إضرار بالدولة وتفكيك للمجتمع، وإفساد للدين والسياسة معاً، وتدمير لأحلام وأماني وأشواق اليمنيين في بناء دولة موحدة وديمقراطية؛ دولة نظام وقانون ومؤسسات حسب شعار حركة يونيو التصحيحة، وبرنامج ودستور دولة الوحدة في ال22 من مايو 90.
وما يبقي على مثل هذا العبث اللاعقلاني هو ضعف المعارضة ولامبدئيتها، ومراهناتها على المساومات والمكاسب الآنية. فالصراع في الحياة السياسية اليمنية صراع بين الضعفاء، وفي المجتمع تصارع يؤشر إلى التداعي والتفكك.
فالقبيلة كتشكيلة اجتماعية مغلقة تتسم بالعصبية ورفض الدولة والدستور والقانون، والسلفية التكفيرية الجهادية ضد العصر والتطور والمجتمع، والعسكرة الخارجة من رحم العشيرة والأسرة كلها مفردات الوضع القائم، وهي أسلحة دمار شامل سواء في تحالفها أو في تقاتلها، وهي حتى وإن تحالفت لابد أن تتحارب لأن بقاءها يقوم على نهب الثروات واستلاب المال. فهي تتصارع على الاستحواذ على المال العام، وحصة كل طرف منها على النصيب الأكبر من الثروة. وأنموذج حكم كهذا إنما يخلق معارضة من لونه وعلى شاكلته: تمرد الحوثيين في صعدة، ومفردات الحراك الجنوبي المفكك والمنقسم، والتيار الإرهابي الذي يغذيه فساد الأوضاع، وبعض معارضة الخارج التي تنكر يمنية الأرض اليمنية كاحتجاج بليد على حكم شاركت في صنعه.
ولاشك أن لسلبية المعارضة دخلاً في خلق مثل هذه الحالة البائسة.
قد يكون للحكم مصلحة في التلويح بالصوملة والتهديد بالانهيار، وربما المبالغة في التقاتل مع الإرهاب لترويع الداخل وابتزاز الخارج، ولكن السؤال الفاجع: ما هي مصلحة المعارضة في رؤية بلد يتفكك، وينحل أو يعود إلى عناصره الأولى، مكتفية بلعن الظلام بدلاً من إشعال الشمعة؟
لا أحد ضد الحوار، ولا مخرج غيره، ولكن الحوار يقتضي النزول إلى الجماهير وتبصيرها بما يجري وحشدها ورص صفوفها لمواجهة قدرها. فلا أمل في تغيير الأوضاع غير قوى المجتمع المدني الحية والفاعلة. وتحالف الفساد والاستبداد لا يمكن تحديه ومواجهته إلا بتحالف شعبي واسع وعريض يضم الأحزاب السياسية المعارضة ومؤسسات المجتمع المدني، وتعزيز التحاور بالاحتجاج المدني الذي ينبغي أن يصل إلى كل مدينة وقرية ودائرة.
سلاح الدين في الصراع السياسي سلاح خطير، وما قَتل به حاكم إلا قُتل به، والشواهد كثيرة، ولا من يتعظ.