الهوية إنسان (12) (أ)

الهوية إنسان (12) (أ)

* إلهام مانع
"إذا كان لمفهوم وجود الله أية صحة أو غاية، فإنه يهدف تحديداً لجعلنا أكبر، أكثر حرية، وأكثر محبة. أما إذا كان الله غيرَ قادر على ذلك، فقد حان الوقت كي نتخلص منه". جايمس بالدوين
قد تكون عبارة بالدوين، الكاتب الأمريكي من أصل أفريقي، صادمة. وهي بالفعل صادمة.
لكن عبارته تحديداً هي الجوهر الذي يقوم عليه مفهوم الإسلام الإنساني.
مفهوم يقول ببساطة إن الإيمان يهدف إلى خلق علاقة بين الإنسان والخالق. لا أكثر ولا أقل.
علاقة روحانية.
وإن هذه العلاقة من الممكن أن تأخذ أشكالاً متعددة. فأي دين، أياً كان هذا الدين، ما هو إلا طريق. وسيلة يستخدمها من يريد أن يؤمن. ولذلك لا توجد تراتبية بين الأديان. ليس هناك دين أفضل من دين آخر. كلها طرق، تصل بنا إلى الهدف نفسه.
بكلمات أوضح، الإيمان يمكن أن يصل إليه الإنسان من خلال الأديان الإبراهيمية الثلاثة؛ اليهودية والمسيحية والإسلام، من خلال الأديان الهندوسية والبوذية، تماماً كما يمكن أن يصل إليه دون دين. الدين ما هو إلا غلاف أو قشرة خارجية. أما المضمون فهو العلاقة الروحانية التي تربط بين الفرد والرحمن. طريقة الإيمان لا تنعكس على طبيعة الإيمان، لا تنقص منها، أو تشوهها. كلها طرق متساوية، تماماً كالعلاقة التي تجمع من خلالها الإنسان بخالقه.
كوني أقول ذلك يعني بداهة أني أفترض أنه لا يوجد دينٌ كامل.
وهذه أيضا عبارة صادمة. فاعذراني إذا كنت قد تسببت فعلاً في صدمكما. لاسيما وأنني سأكررها، كثيراً. ورجوتكما رغم الصدمة أن تتمعنا في هذه العبارة: ليس هناك دينٌ كامل. والإسلام أولها.
مؤيدو فكر الإسلام السياسي هم وأتباع التفسير الكلاسيكي الأرثوذوكسي للإسلام بشقيه؛ السني والشيعي، سيرفضون هذه الرؤية عندما تتصل بالإسلام تحديداً (وفي الواقع سيرفضها أيضاً أتباع الأديان الأخرى المتزمتون، لكن حديثنا في هذا الموقع يركز على أصحابنا هؤلاء).
هم لن يشيروا إلى الأديان البوذية أو الهندوسية من الأساس، باعتبار أنه من تحصيل الحاصل أن هذه الأديان "كفر" و"شركـ" و"إلحاد"، ثم سيعرجون على اليهودية والمسيحية، أتباعها "أهل كتاب طبعاً"، لكنها تظل في رأيهم "ناقصة"، "ناقصة"، إنما جاء الإسلام ليكملها. وهو يعني حتماً اقتناعهم أن الإسلام جاء كاملاً جامعاً تاماً، لا تشوبه شائبة.
الإسلام الإنساني يرفض هذه القناعة. ويصر على أن أي دين، بما فيه الإسلام، لا يتصف بالكمال.
الدين ليس حجراً صلداً. لا يتغير، لا يتبدل، لا يتحول.
لو أردتما صورة ذهنية للدين، تخيلا بذرة، نضعها في تربة، فتنمو، وتترعرع، ينبثق منها فروع وأغصان، وثمار أيضا. لكن كي تنمو، كي تزهر، لا بد من تشذيبها، من قطع بعض أطرافها، من العناية بها.
أعود وأكرر لكما تلك العبارة المزعجة: ليس هناك دين كامل.
لماذا؟
كل دين خرج من ضمن نطاق زمني تاريخي محدد. وهو لذلك ابن زمنه. ولأن كل الأديان وجدت قبل أكثر من ألف سنة، فإنه من الطبيعي أن يكون فيها الكثير الكثير الذي لا يتماشى مع مفاهيمنا الحديثة العصرية لحقوق الإنسان وكرامته.
هذه الرؤية الإنسانية للإسلام تقول إن الدين، أي دين، ما هو لحظة نشأته إلا نواة، وَضع جذورها من آمن بهذا الدين ونشر رسالته، ثم بنى عليها الناس على مر الأجيال، جيلاً بعد جيل، فإذا بالنواة تتحول، تتغير، تتبدل، ثم تتشكل وفقاً لرؤية ومواقف وأفكار من يؤمنون بهذا الدين.
الأديان تتغير على مر الزمن. وهذا يفسر على سبيل المثال السبب الذي جعل الإسلام الإندونيسي (قبل أن يتأسلم أخيراً) شكلاً مغايراً عن الإسلام النجدي. ويفسر أيضا سبب تفرع الإسلام إلى مذهب سني وآخر شيعي وثالث صوفي، ثم تحوله إلى شكل آخر مغاير إلى حد كبير في صوره العلوية، الدرزية... وغيرها.
نحن من يصنع الأديان، أعزائي.
نحن.
الإنسان هو من يصنع الدين.
هو من يجبله بطبعه، بروحه، بعقلانيته أو انعدامها، وبالحب أو الكراهية الذي فيه.
هذه الرؤية للدين تتطلب حتما التعامل معه بشكل "نسبي"، فكما أن كل شيء يتغير، يتغير الدين. وطالما أن الهدف هو تنظيم علاقة الإنسان بالخالق (إذا أراد هذا الإنسان أن يؤمن) فإن كل ما عداه يخضع للتغيير.
من هذا المنطلق أتعامل على سبيل المثال مع الحدود التي جاء بها القرآن الكريم أو السنة النبوية.
قطع يد السارق، رجم الزانية (أحدد الضحية بالمؤنث لأني لم أسمع في عصرنا هذا عن عقوبة استهدفت رجلاً لأنه زنى. هو منطق الكراهية، لا يستهدف إلا الضعيف)، الجلد... وغير هذا من العقوبات البدنية، كلها تنتمي إلى العصر الذي وُضعت فيه، أي القرن السابع الميلادي.
وهي عقوبات لم يبتكرها النبي الكريم.
انتبها، فهذا الأمر مهم.
هذه العقوبات لم يبتكرها الرسول الكريم. كانت موجودة قبل أن يولد. وعندما أراد أن ينظم الدولة التي أسسها استخدم أدوات العقاب التي كانت متواجدة حينها.
كان ذاك زمانه.
اليوم زمان آخر.
في زماننا هذا، نسمي الأشياء بأسمائها، نسمي هذه العقوبات عقوبات "بشعة"، لأنها "بشعة" بالفعل، لا تنتهك حقوق الإنسان فحسب، بل تنتهك آدميته وكرامته. شاب سرق. أنقطع يده ونتسبب له في عاهة تحوله إلى عالة على المجتمع، أم نعاقبه بمدة سجن مناسبة ونؤهله كي يخرج عضوا فاعلاً في المجتمع؟ ثم تخيلا منظر يده وهي تقطع، أليس هذا منظراً ينتمي بجدارة إلى القرون الوسطى؟
من يطالب بالعودة إلى تطبيق هذه العقوبات، أقول "العودة" لأن معظم الدول العربية والإسلامية باستثناء تلك الدول الدينية الكهنوتية التي نعرفها ولن نسميها، لا تطبقها؛ أقول من يطالب بالعودة إليها لا يعيش فقط بعقله وروحه في القرن السابع الميلادي، بل نسي أيضاً آدميته.
---
وكما أن الزمان تغير في ما يتعلق بأساليب العقاب، تغير أيضاً بالنسبة للمغزى من الإيمان بدينٍ ما.
فالهدف، وفقاً لرؤية الإسلام الإنساني، من الإيمان بدين ما، يرتبط حتماً باحتياجات هذا الإنسان.
احتياجات هذا الإنسان الروحانية، لا أقل ولا أكثر.
الهدف هو الإنسان نفسه.
ولذلك، لا أرى أن الإنسان يجب أن يُسخر نفسه وأسرته ثم مجتمعه للدين. العكس هو الصحيح.
الدين وسيلة. طريقة. توصلنا إلى الخالق، إذا أردنا أن نصل إليه.
ولذلك لن يضير الله كثيراً لو صليت خمس مرات، أو ثلاث، أو مرة في الأسبوع. في الواقع أنا لا أصلي إلا إذا أحسست بحاجة إلى الصلاة والتأمل.
وإذا قرر إنسان أنه لا يريد أن يصلي، فهذا أمر لا يستحق الإدانة أو النقد أو التجريح. لن يجعله أفضل أو أسوأ. شأنه.
وفي الواقع، سواء صلى أو لم يصلِّ، صام أو لم يصم، لن يزيد الأمر عن مسألة تخصه. شأنه.
الدين ليس فرضاً، وفروضه ليست قهراً.
وعندما نحوله إلى فرض ثم قهر ينتفي الإيمان.
لن يكون إيماناً حراً من شخصٍ اختار، بل قهراً كهنوتياً يتناقض حتماً مع مفهوم "الإيمان".
أن تؤمن يعني أن تكون حراً.
وهذه الحرية تعني أيضاً أن من حقك ألا تؤمن.
الله ليس في حاجة إلى الإنسان.
ولا أظنه عز وجل سيبالي كثيراً أو قليلاً لو انقرضت الأديان من على وجه الأرض.
وفي الواقع كما قلت مرة لصديق، إني وصلت إلى قناعة أننا إذا أردنا أن نبحث عن الله، فعلينا أن نبحث عنه فينا، في أنفسنا. نحن.
وأنه إذا كان موجوداً خارج ذواتنا فإنه قد تركنا وشأننا منذ بدء الأزل، وأننا لذلك مطالبون بتحمل مسؤولية أنفسنا والعالم الذي نحيا فيه.
ووالله إني كثيراً ما شككت في وجوده، خاصة في أوقات الحروب. عندما رأيت الطفل يُقتل وهو لا يحميه.
أسأله: أين أنت عندما نحتاج إليك؟
وأسمع رداً، هامساً: أنا فيك، ابحثي عني فيك، في الإنسان فيك، وفي الخير الذي في روحك. فكما يصنع الإنسان الحروب ويغرس الكراهية، هو أيضاً من يصنع السلام وينشر المحبة.
---
سيهزأ مني الكثيرون. ويحنق غيرهم، وبعضهم سيُكفّر.
وسيقولون مارقة، كفرت وخرجت عن الإسلام. ولهم أن يقولوا ما شاؤوا، فلن يغير من إصراري أني في كل ما أقوله، أقوله من داخل دائرة الإسلام.
أصر على أن أقول إن الدين الذي اخترته لنفسي هو الإسلام.
لكني في الوقت ذاته أرفض مقولة "هذا هو الإسلام، إما أن تقبلوا به كما هو أو تخرجوا منه".
فأنا في الواقع، أخوي، لا أقبل به كما هو، لكني لن أتركه، وفي الوقت ذاته سأسعى إلى تقديم رؤية مغايرة، تمكنني من الإيمان لكن بصورة تحترم آدميتي، عقلي، وكرامتي. بصورة تحترم مفاهيم حقوق الإنسان في صورتها الحديثة اليوم.
وبصورة تجعل من هوية الإنسان هي المعنى الأشمل لمفهوم الإيمان.
ولذلك، لو لاحظتما، في الفقرة السابقة قلت "أصر على أن أقول إن الدين الذي اخترته لنفسي هو الإسلام"، ولم أقل "إني مسلمة". لأني أصر، أذكركما، على أن الدين ليس هوية.
الدين ليس هوية. بل اختيار.
والهوية هي الإنسان.
أُكمل هذه الفكرة معكما في المقال القادم.
[email protected]