كيف أؤمن بالله؟

كيف أؤمن بالله؟

إلهام مانع
أردت الاستهلال فجاءني الخبر، فقدٌ جديد: وفاة المفكر الجليل الدكتور أحمد البغدادي.
يا الله، كأن المصائب تتلاحق، نختنق بالأسى ونحن نلهث وراءها.
"أبواب الحزن مشرعة"، قالها لي الصديق.
ومعه حق.
لكن سفينة التنوير تمضي. تحمل فكر هؤلاء الأجلاء، نصر حامد أبو زيد وأحمد البغدادي، ثم تمضي إلى الأمام. فلا يأس حتى مع هذا الحزن الذي ينز من قلوبنا.
تعلمت على يد الدكتور أحمد البغدادي في جامعة الكويت.
معه ترسخت الكثير من المبادئ التي ترعرعت عليها في كنف أبي: "ولد الإنسان حراً، وحريته في قدرته على الاختيار".
أذكر أول عبارة قالها لنا -نحن طلابه وطالباته في مادة الفكر السياسي الإسلامي: "هذه المادة تهدف إلى إيصال المعلومة التالية: أنه لا وجود لفكرٍ سياسيٍ إسلامي!".
نظرت إليه يومها مندهشة متفكرة، وقلت لنفسي مبتسمة: "هذه بدايةٌ مختلفة".
وكان مختلفاً بالتأكيد. وكم هو فخر أن يكون الإنسان مختلفاً في زمننا هذا.
أحببت هذا الأستاذ الجليل، فكره العقلاني المتمرد، وطريقته الحرة في التعليم والتدريس. واحترمته. وأدين له بالكثير.
فعزائي لأسرته أولاً، وللعقلاء في الكويت ثانياً. لأن غيرهم سيشمتون، وهو متوقع منهم. فمن آمن بالكراهية لا يعرف المحبة، يدلف إلى الظلام، خوفاً من النور، ومن جوفه يصرخ بالمقت. وعن هذا الفكر أتحدث طوال الوقت. وفي مواجهته أطرح فكرة الإسلام الإنساني.
---
الله المحبة. قلتها لكما مرة.
هكذا أستشعر وجوده، فيّ، في داخل الإنسان، محبة.
نور ومحبة.
ولذا تجدانني أنفر من صورة الله التي يروج لها فكر الإسلام السياسي والإسلام الأرثوذكسي بشقيه السني والشيعي. أنفر من هذه الصورة، لا بل أرفضها.
فالرب الذي يدعو إلى القتل، الذي يزرع الرعب في قلبي كي أؤمن به، الذي يبطش بالبشر، والذي يميز بين البشر، يفضل مجموعة على أخرى، الله الذي يعدل عندما يريد، والذي ينتظر الزلة منا كي ينزل علينا أشد أنواع العقاب، ليس رباً.
ليس رباً.
بل تجسيد لخيال بشرٍ مريض، بشر يكره نفسه وواقعه، فيدعو إلى كراهية غيره، ثم يقول الله يكره.
ولذلك، لو كان الله هكذا فعلاً لما آمنت به.
دعوني أكرر هذه العبارة لأني قصدتها كما قلتها: "لو كان الله هكذا فعلاً، لن أؤمن به، بل سأكفر به".
لأن الصفات التي نلحقها بالرحمن يجب، أقول يجب لا حبذا، يجب أن تكون خيرة، محبة، عادلة، منصفة.
الرحمن لذلك هو المحبة، الخير، وهو عادل، لا يميز بين خلقه، ويحبهم.
أتذكر حكاية قصتها عليّ سيدة كويتية تعرفت عليها خلال رحلة بحث ميدانية قمت بها في الكويت عام 2008.
كانت تحيا حينها مع أسرتها بعد انفصالها عن زوجها، هي وابنها.
قالت لابنها يوماً أمام أفراد من عائلتها: "لا أريدك أن تخاف من الله، أريدك أن تحبه". فتعرضت إلى انتقاد شديد من أسرتها: "ما هذا الذي تقولينه لابنك؟"، جاءت ردة فعلهم عنيفة.
السيدة تنتمي إلى أسرة شيعية. وأنا أشير إلى انتمائها المذهبي لا لشيء إلا للتدليل على أني لا أقصد مذهباً محدداً عندما أنتقد الفكر الديني في صوره المتعددة التي نراها اليوم، وتعامله مع الله، الكون، والحياة من بعده.
تساءلت وأنا أستمع إليها عن سبب انزعاج أفراد أسرتها من رسالة هي في الواقع روح الإيمان.
أين المشكلة في أن يحب ابنها الله، وألا يخافه؟ أين المشكلة فعلاً؟
أنا أحب الله.
ولا أخافه.
كيف أخافه وأنا أحبه؟
ثم كيف أخافه وهو، لأنه رب، لا محالة سيحب خلقه، أياً كان هذا الخلق.
لكن ليس هذا هدف فكر الإسلام الأرثوذكسي بشقيه السني والشيعي، أو فكر الإسلام السياسي. ليست المحبة هدفهما. أليس كذلك؟
دققا قليلاًَ وستجدان أن هدف هذين النوعين من الفكر الديني لا علاقة له من قريب أو بعيد بفكرة أن نؤمن بخالق أو قوة أسمى.
ليس الإيمان هو الهدف. والمحبة أبعد ما تكون عن هذا الإيمان.
بل الطاعة.
الطاعة.
يريدان منكما أن تتعلما كيف تسمعان وتطيعان ولا تناقشان. كي يخلقا منكما شخوصاً مستنسخة تتحرك وفقاً لإهوائهما، وفي أوقات الضرورة تدفعكما إلى الكراهية، إلى الإقصاء، ثم العنف والقتل.
"لا تحبا بل اكرها. لا تبتسما بل تجهما. لا تفرحا بل احزنا". ثم "أحقدا، وحبذا لو قتلتما".
القتل جريمة، لكن معهما نسمي القتل جهاداً. فتدبرا.
الطريقة التي يُرَّوج فيها للدين اليوم تعتمد لذلك على عنصري الخوف والكراهية.
"إذا لم تغطِّ شعرك سيحرقك الله في جهنم".
"إذا لم تصلِّ، فأنت كافر، وسيحق قتلكـ".
"إذا لم تتبع هذا المذهب تحديداً، فأنت من أهل النار بالتأكيد".
"إذا لم تؤمن بالجهاد، فقد كفرت".
"وهؤلاء، غيرك، هم كفرة فابتعد عنهم".
"هؤلاء لا يصلون كما نصلي، إسلامهم ناقص بالتأكيد".
"وهؤلاء ليسوا مثلنا، ومقتهم في قلوبنا واجبٌ بالتأكيد".
"عليك أن تؤمن هكذا، أن تصلي هكذا، أن تكون هكذا، وغيرك في جهنم وبئس المصير".
زرع الخوف في قلبيكما ضروري، يدفعانكما إلى الرعب وفي الوقت ذاته يؤصلان فيكما إحساساً دائماً بالذنب، بالذنب، لأنكما وفقاً لرؤيتهما تقترفان الكثير الكثير من الذنوب، مجرد إحساسكما بالحياة، فرحتكما بمتعها، يجعلكما مذنبين، تستحقان جهنم.
كل ما له علاقة بالجمال، بالحب، وبالخير يبدو مكروهاً من هذين الفكرين. وإذا أقدمتما على الحياة سيشعرانكما بالذنب من جديد.
ومع الخوف، الرعب، والذنب، يطوعان عقليكما على عدم التفكير، تتعلمان كيف تطيعان، وترددان: "سمعاً وطاعة".
كالببغاوات.
طاعة عمياء.
لا تتفكران في الكلمات، لا تتدبران في معانيها، ولا في دلالاتها.
"عليكما أن تطيعا، ولا تناقشا".
ولذلك ستجدان أن أحد أهم ملامح هذا الفكر هو رفضه للتفكير، رفضه للسؤال والشك: "اقبل بما نقول كما نقول، ولا تجادل، لا تجادل، عليك اللعنة إن فعلت".
وإذا شككتَ أو شككتِ أصبحتما من المنافقين.
هكذا سيقولان لكما.
لكن الحياة دون شك، دون تدقيق، دون تساؤل، هي حياة عمياء، مشوهة لا عقل لها، ولا إرادة.
فلا تصدقا.
شُكا.
تساءلا.
ثم عيشا الحياة.
تعلما كيف تعيشان الحياة، بقوة، ولا تخافان.
وفي الواقع، عزيزي القارئ عزيزتي القارئة، فكرة الإسلام الإنساني التي أطرحها تقوم جوهراً على هذه الدوائر المتشابكة: الشك، الحياة، والمحبة.
تتعامل مع الإيمان من منطلق إنساني، من منطلق يشك ولا يقبل بمسلمات قاطعة، كل شيء يخضع للشك بما فيها نصوصنا المقدسة، والقرآن الكريم أولها.
تتعامل مع الدين من منطلق يعيده إلى حيزه الخاص، تؤمن أو لا تؤمن شأنُك، ثم تخرجه من الحيز العام، وتقول إن الدين لا يهدف إلى خنق الإنسان بطقوس وشعائر، بل الهدف هو هذا الإنسان نفسه، كرامته وسعادته. ولذا فإن الحياة، التمتع بها، الحب، الجمال، كلها جزء ضروري لحياة إنسانية كريمة.
تتعامل مع الإنسان، رجلا كان أو امرأة، على أنه كائن عاقل راشد قادر على الاختيار، وتسيير حياته كما يشاء. كما يشاء. ولذا فإن أساس التعامل بين البشر ليس معايير دينية، بل معايير إنسانية، هو إنسان، هي إنسان، وهذا يكفي. أقبل بهما، كما أقبل بكما، دون شروط.
حديثي معكما لن يكون عاماً. وهو حديث طويل، أحدد ملامحه لكما.
فكرة الإسلام الإنساني كما أطرحها لها عناصر أربعة: أولا، الهوية -إنسان؛ ثانيا: إسلام يقوم على مبدأي "العقلانية" و"الحرية"؛ ثالثا، دوائر التفكير المغلقة -الطبيعة البشرية للنصوص المقدسة، ورابعاً، المرأة –إنسان.
الهوية هي الإنسان.
الإنسان أولاً، هو موضوع الحلقة القادمة.