لكي لا يجر الاتفاق إلى اتفاق

لكي لا يجر الاتفاق إلى اتفاق

* عبدالباري طاهر
يدرك الحكم ربما أكثر من المعارضة السياسية المخاطر والعوائق التي تواجهه في خوض الانتخابات النيابية القادمة. فصعدة وأجزاء واسعة من حاشد قد تمردت عليه. كما أن قبضته على الشمال بصورة عامة قد تراخت. أما الجنوب فإنه يخوض معركة احتجاج ورفض جلي لمجمل سياسات الحكم ونهبه وفيده. ومهما زور فلا يستطيع الخروج بانتصار حقيقي، وحتى المثلث أو المربع أو المخمس: صنعاء، وتعز، وإب، والحديدة، والمحويت، فإن المشترك -لو أراد وبجدية- يستطيع منافسته فيها أو فضحه على الأقل، وخروجه بنصر أقرب للهزيمة أو معنى من معانيها.
أستغرب انخراط المعارضة السياسية في المساومة على الإصلاحات مع الحاكم وإهمالها شبه كلية بالنزول إلى الناس، وتهيئة الشارع وتثويره، وتبصيره بطبيعة الأزمة، وحقيقة أوضاع اليمن الآيلة للتصدع والتفكك والتحارب. يضع الحكم أمام نفسه قصة المساومة والتوافق على اقتسام الدوائر وبالأخص مع الإصلاح، والحقيقة أن جل قيادات المشترك مهجوسة بهذا النوع من "النضالـ".
إن المعارضة السياسية غافلة عن قراءة طبيعة الوضع اليوم، وحالة الشعب العامة. فالناس حتى الموالون بالأمس للرئيس أو للمؤتمر الشعبي العام، لم يعودوا على نفس الموجة، وحتى أعضاء المؤتمر والموالون لديهم معاناتهم، وهم ككل الناس متضررون من سياسات الإفقار ونهج التجويع والتفكيك التي يقودها الحكم.
يتكئ الحكم اليوم على "منسأة سليمان"! وهو يستغرب أكثر من غيره عجز المعارضة عن فضح قميص الملك بعد أن أدركها الطفل اليمني، وليس من سبيل لإعادة صياغة النظام وعلى أسس ديمقراطية غير النزول للناس وصياغة برامج جديدة وشعارات مختلفة، ووجوه جديدة أيضاً لانتزاع لقمة الخبز الكفاف السبيل الوحيد اليوم للحفاظ على الوحدة والديمقراطية والعدالة والمساواة.
للمعارضة السياسية مطالب حقيقية تضمنتها اتفاقية فبراير، ولكنها سكتت عنها ثم أحيتها باتفاق ربما يحتاج إلى أكثر من اتفاق، ولا يخرج معارضتنا في "محنة" الدور والتسلسل كما يقول علماء الكلام غير هز "المنسأة"، وتبني مطالب الناس في الخبز والسلام. عيب التحاور مع الحكم أن يتم في ظل غياب التحاور مع الناس. قيادات المعارضة غالبيتها نخبوية مترفعة ومتعالية على الناس، وجلها من طينة الحاكم نفسه، ومن هنا فإن رهانها على "الحصة" أكبر من رهانها على التغيير الحقيقي.
وحدة اليمن لا يضمنها غير توفير خبز الناس وأمنهم وسلامهم، وبناء دولة نظام وقانون يتشارك الجميع في تأسيسها. وليس أمام اليمنيين غير سبيل الانتخابات لإصلاحها والإصلاح بها.
تحريك الدوائر والمناطق والحياة الراكدة والناس هدف الانتخابات، وهي مهمة الثوري الحقيقي. كما أنها الوسيلة الفعلية والمثلى للخلاص من فساد الحكم واستبداده. لا يريد قادة المعارضة هز عصى صالح أو حتى هز الشجرة لتسقط الثمرة. فهم يريدونها أن تسقط في أيديهم بدون هزّ.
اختارت صعدة وحرف سفيان طريقاً يتماثل ونهج وطبيعة الحكم، وهو ما يفرض عليه الانصياع له. أما الحراك في الجنوب فقد اختار الاحتجاج المدني السلمي، وهو خطر حقيقي قد يمتد إلى المدن: صنعاء، ذمار، إب، عدن، تعز، الحديدة، وحضرموت. ومثل هذا اللون من الاحتجاج لا يستسيغه الحكم ولا يقبل به، ومن هنا حرصه الشديد على عسكرة الاحتجاج والدفع به إلى الاحتراب والعنف.
لقد فشل تجيير الحراك في الجنوب للقاعدة، وسرعان ما اكتشفت أوراق "القوى التقليدية" التي لوحت باستخدام السلاح، ويبقى الأمر رهناً بمدى قدرة مفردات الحراك وقياداتها على الابتعاد عن العنف بكل صوره وأشكاله، وبنفس القدر الابتعاد عن ترديد الشعارات "الانفصالية" التي تشهد زوراً للحكم بأنه حامي حمى الوحدة.
إن الخلل الحاصل في اليمن مرده إلى غياب دولة تحمي أقوات الناس وأمنهم وسلامهم، وتحقق المواطنة والعدالة.
ثقة الحراك بالسلطة وقيادات المعارضة السياسية (المشترك) مفقودة، ومنذ البدء تعاملت قيادات المعارضة أو بعضها مع الحراك باستهانة شديدة، وأحياناً بالإدانة والتشكيك. ولم تتبنَّ المعارضة مطالب الناس في الجنوب، وهي مطالب إنسانية وسياسية، وهو ما جعلها تتخذ البعد الجهوي الحاد، ولن تكون المعالجة إلا بإصاخة السمع لنداء الجنوب، والتفهم الوطني والديمقراطي والإنساني لمطالبه، وهي سياسية بالدرجة الأولى، وتتعلق بإلغاء مشاركته في دولة كان له الإسهام الأكبر في بنائها، ومحاولة طمس تجربته في بناء دولة للقانون وللعدالة والمساواة.
إن الاستعلاء القبلي والجهوي ومنطق الأصل وعودة الفرع، وإرثاً غير مجيد من الصراعات الكالحة جرى بعثه في الحرب المجرمة ضد الجنوب واستباحة أراضيه وناسه، وهي جوهر المشكلة، ومطلوب من الحكم معالجتها والانصياع لمطالبها، وعلى المعارضة تبنيها والدفاع عنها.
صحيح أن السلطة تشمل الجميع بقمعها، وتضر الجميع بفسادها واستبدادها، ولكن ما جرى ويجري في الجنوب مختلف تماماً، فقد أعلنت الحرب الكريهة ضده، وصدرت فتاوى جهنمية تكفره وتهدر دمه، وتستبيح أرضه، وتعاملت سلطة 7/7 معه بعنجهية وعدوانية واستعلاء يفوق ما يفعله المحتلون. ثم جرى تهميشه وإلغاء شراكته الحقيقية، وهو ما جعل قياداته في الداخل والخارج تتنادى للدفاع عنه.
إن قضية صحيفة "الأيام" التي أشار إليها الزميل سامي غالب في افتتاحية العدد الأخير من "النداء"، تكشف الوجه الخبيء لتعامل السلطة، فقد أعلنت الحرب ضد "الأيام" العدنية، ثم أوقفت العديد من الصحف الصادرة في الشمال. ولفقت لها تهماً زائفة لا لشيء إلا لتثبت أن الإجراء ضد "الأيام" ورئيسها ومحرريها ليس جهوياً، وعادت كل الصحف الموقوفة والمحاكمة لتبقى "الأيام" محجوبة، وشرد محرروها.
إن مسؤولية لجنة الحوار كبيرة جداً، وهي مطالبة بالنظر في حقيقة الوضع في اليمن كلها، ومعالجة القضايا الوطنية التي لا يمكن القفز عليها، وبالأخص وضع الجنوب، والحرب في صعدة. فالحرب في صعدة ما تزال ماثلة، ويمكن انفجارها في أية لحظة. كما أن أوضاع الجنوب بحاجة إلى تحاور الجميع مع الجميع، وبالأخص قيادات الحراك ومعارضة الخارج بدون استثناء.
إن إجراء الانتخابات أمر غاية في الأهمية، ولكن دراسة خارطة الوضع في اليمن تفرض على الجميع قراءة مزاج رفض السلطة في أكثر من منطقة، وهي حالات تصل إلى حمل السلاح. إن نسبة كبيرة من قيادات الحراك آتية من الحزب الاشتراكي، وبعض منهم أعضاء في مجلس النواب، وقد اضطرت هذه القيادات إلى ترك مواقعها الحزبية وغادرت مجلس النواب، لأنها تدرك أن وضع الجنوب لا يحله إلا التمرد على السلطة بكل مؤسساتها ومفرداتها.
ومثل هذه القيادات كغيرها من أبناء اليمن يعرفون غياب أي دور تشريعي أو رقابي للمجلس الضعيف والتابع للسلطة التنفيذية. كما يشعر أبناء صعدة وعمران أن المجلس أضعف من أن يتبنى قضيتهم أو يهتم بكارثتهم. فهل تستطيع لجنة الحوار أو تمتلك الإرادة والحرية والصلاحية لقراء خارطة المآسي اليمنية، ووضع اليد على ممكن الداء، ومن ثم رشدة المعالجة، ومن ثم الولوج إلى الانتخابات بعد الإجابة على أسئلة الشعب الحقيقية، والتي سيكون الدخول إلى الانتخابات بدون الإجابة عليها كارثة على الحكم قبل غيره.
إن الاحتجاجات في الجنوب والحروب المستدامة في صعدة وحرف سفيان هي جوهر الخطر الذي يتهدد الكيان اليمني. صحيح أن هناك كوارث متناسلة: اقتصادية، اجتماعية، سياسية، تبدأ ولا تنتهي، ولكن الاحتجاجات في الجنوب، والحروب المستدامة في صعدة وحرف سفيان ذروة هذه الأزمات الشاملة والكاملة.
وبقراءة مفردات الحكم والمعارضة ندرك أن الحكم يريد إجراء الانتخابات بلا قيد أو شرط، ويريد إشراك المعارضة في الانتخابات كشاهد زور على ديمقراطيتها ونزاهتها، وتريد أيضاً "توافقاً ما" على انتخابات تكفل "تصفير العداد" حسب المصطلح المتداول في قاموس المعارضة، وأيضاً عزل الحراك والضغط على الحوثيين، وتسويق الانتخابات للخارج. يدرك الحكم أن هناك عزوفاً شعبياً عن لعبة تكرر إنتاج الحكم ومحازبيه، ولا تبعث أي أمل للخروج من كارثة الحرب ومأزق الاحتجاجات، وضراوة الفساد والاستبداد والإرهاب.
تريد السلطة أيضاً خلق الشكوك والشقاق في صفوف المعارضة و"حلفائها" إن كان ثمة حلفاء. كما تحرص إلى جر المعارضة إلى خطيئة "المشاركة" في اللعبة ولعنة اقتسام الدوائر، وتوزيعها كرشى.
أما المعارضة فبتوقيعها الاتفاق قبل التفاهم مع "الحلفاء"، وخصوصاً معارضة الخارج، فإنها تعمق الشكوك، وتغرس الخلاف، وتعود بالحوار إلى نقطة الصفر، وتجعل نفسه فريسة "الملدوغ من جحره أكثر من مرة"!
أخطر ما ينطوي عليه الاتفاق المعطوف على اتفاق فبراير، أن يتضمن –في ما يتضمن- الاقتراب من السلطة بقدر الابتعاد عن الحلفاء والأصدقاء، وبالأخص معارضة الخارج، والحراك الجنوبي والحوثيون، ويقطع الطريق على خلق اصطفاف واسع يضم ألوان الطيف السياسي والمجتمعي في الداخل والخارج.