«المرجع» والمثقف، الدولة والثورة... (بقية)

«المرجع» والمثقف، الدولة والثورة... (بقية)

تصديه للمرجعية تجديداً في أسس المرجعية الشيعية فحسب، بل وضع برنامج نظري وإصلاحي موضع السلطة وموضع الحكم والتنفيذ، جرت المرجعية الفضل الإلهية في مؤسساتها وإداراتها وأنظمتها على مثال دولة عصرية، فيما كانت فتاوى السيد المتعددة تضع البيان النظري الثوري للسيد الصدر والدعوة الإصلاحية للسيد الأمين لا موضع البرمجة والتنفيذ التدريجي بحسب رؤية السيد فحسب، بل موضع الفتوى والتشريع، أي الترسيخ الفقهي والقانوني للخطوات الإصلاحية. كان البيان النظري يتحول أيضاً من هذه الناحية إلى سلطة ودستور، تعددت الخطوات والفتاوى (بحسب الاسم الفقهي لها) وتفاوتت من التصدي، الذي يتابع حركة السيد الأمين، للتشيع الشعبي والمشهدية الفجائعية الشيعية، الى تثبيت العلم والعقل في وجه الموروث والعرف مثل ثبوت رؤية هلال رمضان عن طريق المراصد الفلكية، ومنها مراجعة الرواية التاريخية من موقع تضييق الفجوة المذهبية كاستهجانه لرواية الاعتداء على فاطمة الزهراء بنت النبي في سياق منازعات على إرث الرسول وعلى الخلافة، ومنها ما هو نقد لعقلية القبيلة المستترة بالدين كتنديده بجريمة الشرف.
لا نستطيع أن نجد في هذه الخطوات والفتاوى سوى سياسة تدريجية، انه فن السلطة والحكم، فالمرجعية التي هي سلطة بكل المعاني تتصرف بحساب وبعقل تكتيكي وبتدرج. خطوات لا شك انها متفاوتة وأولية، بعضها في تحديه واستفزازه لتراث موصول كرؤية الهلال، وبعضها ذو أفق راديكالي كتنديده بجريمة الشرف، أما المراجعة التاريخية فلا تقوم فقط بوازع ديني في ثقافتنا التي ينقصها بحق النقد التاريخي وأدواته الكتبية والاركيولوجية.
يمكننا القول مع ذلك أن خطوات أولية أثارت عند كل واحدة منها صداما وممانعة كبيرين وصاخبين، فهذا طريق شاق وطويل ولا بد من صراع قاس عند كل عطفة وعند كل تعديل، ولا يمكن لهذا إلا أن يكون حفر الجبل بإبرة، وبالوسع أن نفهم من ذلك صعوبة الإصلاح الديني وخيباته.
كان السيد في الدولة والثورة وليسا دائماً واحداً. فالاصلاح والنقد العقلي والتصدي للدين الشعبي وللمشهدية الفجائعية ليست بالضرورة طريق الثورة، التي تقدم السياسة على الاجتماع وتستثمر الدين الشعبي وتخاطب الغريزة الجماهيرية وتستنفر روح التقاليد والموروث.. فضلا عن نزوعها الدوغماتيكي وجحودها العقائدي.
كان دأب السيد فضل الله تحويل الإصلاح الأميني والثورة الصدرية الى خطوات برنامجية، إلى تشريع وقانون، أي الى سلطة. لكن أمراً كهذا يحتاج الى سياسة والسيد فضل الله كان بذلك صاحب سياسة محسوبة. كان يفاجئ في خطبه بلغة تصدر عن السياسة أكثر مما تصدر عن الفقه. ويفاجئ بعقل تكتيكي، في هذا وذلك كان هناك من يجد له نسبا لينينياً، والأرجح أن المرجعية تستوجب سلوك دولة وتستوجب عقلا تكتيكيا. وقد عانى السيد كثيراً لتجديدات أولية لم يكن ليعانيها، لولا انه لا يقترحها للنقاش فحسب بل يريد أن يحولها إلى ممارسة وتقليد جامعين وإلى تعليم ديني. لولا المرجعية لكان التأكيد ذهب أبعد، غيره لا يجدون عنتاً في أن يطرحوا على النقاش مسألة كالعلمانية ولها ممارستها الألفية وأصلها التاريخي في التراث الشيعي. هذه واحدة من مسائل كبرى كثيرة، فالذي يتصدى للمرجعية ويتصدى للدولة والثورة لا يحمل فحسب ثلاث كرات في يد واحدة، بل يدخل في ازدواج وأحيانا في تناقض لا فكاك منهما، والارجح ان السيد ساس الثلاث بقوة ومثابرة متحملا بصبر، لكن ايضا بحنكة ودراية وسياسة وتكتيك، ما يجر عليه تنازعها وتجاذبها واتفاقها واختلافها.
كان من ميزات السيد انه شاعر رومنطيقي، بدأ شاعراً ولم ينكر الشعر وهو في عز مرجعيته بل صدر له قبيل وفاته ديوان جديد يمارس فيه هذه المرة وهو العمودي الاصيل قصيدة التفعيلة، وهذا لمن لا يعرفون تاريخ المرجعية تحد حقيقي. هذه اذا جمعت الى ميزات اخرى من نوعها، استقلاله وترفعه وثقافته، نفهم منها ان الرجل كان استثناء بحق، لكن تحدي رجل بهذه الخصوصية لمنصب قانوني ونظامي كالمرجعية يجعلنا نشعر ونأمل انه لن يكون الاول والوحيد.
لدى مقابلتي للسيد، سألته اذا كان لا يخشى من ان يتحول النظام الديني على غرار الانظمة الشيوعية الى جمود عقلي وفكري. لم يجب السيد بلا ونعم فهذه تقريبا مشكلته، ان يتحول النقد الى حكم وأن يبقى الحكم نقديا، لكن هذه ليست فقط مشكلته وحده انها تقريبا مشكلة المثقفين العضويين كما يسميهم غرامشي، لأننا اذا ابتعدنا قليلا عن المواصفات والمنصب والمسؤولية وجدنا أن السيد فضل الله، على طريقته، واحد من المثقفين وسيرته من سيرتهم وهي سيرة لم تخل في يوم، لدى الجميع، من المرارات.