"معاً مع حسن البنا ضد الحداثة"!

"معاً مع حسن البنا ضد الحداثة"!

* إلهام مانع
لم يكن شيخاً.
أعني حسن البنا.
لا.
كما لم يكن إماماً، لا أكبر ولا أصغر.
كان معلماً في مدرسة ابتدائية بمدينة الإسماعيلية في مصر..
ووجهته الدينية بدأت عندما أصبح من مريدي شيخ الطريقة الحصافية الصوفية، عبدالوهاب الحصافي. ذاك الذي كان يوصي مريديه دوماً، بألا يرددوا كلام "الملاحدة والزنادقة والمبشرين".
فتأثر الشاب. ثم خرج علينا بحزب سياسي: الإخوان المسلمين.
حسن البنا عاش في بدايات القرن العشرين.
فترة مخاض.
العالم يتغير بسرعة تسرق الأنفاس. الأفكار تتوالد وهي تلهث، ثم ترفس ما كان قبلها كي تحل محلها، عادات وتقاليد تزول، تزيحها أنماطٌ أخرى بقيم جديدة، ودول عظمى تتهاوى، لتحل محلها أخرى.
العالم كان يتغير، ويعيش فترة مخاض.
وحسن البنا عايش هذه الفترة. بكل ما فيها من تغيير. بكل ما فيها من تجديد. وبكل الخوف والفزع الذي يثيره التغيير.
بكل الخوف والفزع الذي يثيره التغيير.
---
عايش فترة بدأت فيها نساء الطبقة الوسطى والعليا في مصر في الخروج من الحرملك.
خرجن من الحرملك -تقليد وعادة أخذتها مصر عن أتراك الدولة العثمانية.
يفصل فيها المقتدرون نساءهم ويعزلونهن عن العالم.
كسرن القيد. وبدأن في خلع النقاب، الواحدة بعد الأخرى. خرجن من الظلام إلى الحياة. أردن أن يتعلمن، أردن أن يعشن. يتنفسن هواءً طلقاً، ويمارسن دورهن في مجتمعهن.
أردن أن يكُنَّ.
ما أجمل الحياة عندما نعيشها.
وأقول المقتدرين من المصريين عامدة.
فالغالبية الساحقة من الشعب المصري، التي كانت تعيش في الأرياف، لم تكن لتفكر في مثل هذا "الترف الإقصائي"، في فصل نسائهم في حرملك. ما كانت قادرة على ذلك. فالمرأة والرجل كانا يعملان معاً في الحقل، يزرعان الأرض بأيديهما، ولأنهما جزء من الطبيعة، لم يكن من الطبيعي أن ترتدي المرأة الفلاحة رداء أسود يقيد حركتها وهي تعمل، كما لم يكن من الطبيعي أن تغطي وجهها وتخنق أنفاسها، وهي تنحني على الأرض تبذر، تزرع، تسمد، وتحصد. وفوق كل هذا ترعى أسرتها وأطفالها.
كانت عادة، عادة غير طبيعية. ضد طبيعة الإنسان. تخنق المرأة. تقيدها في شرنقة. وتمنعها من أن تمارس حياتها كما أراد الخالق لها أن تُمارس. فنبذتها المرأة المصرية الفلاحة.
ما أجمل الحكمة عندما ندركها بالفطرة.
فقط المقتدرون كانوا قادرين على عزل نسائهم. لم يكونوا حكماء. كانوا مقلدين. قلدوا غيرهم دون أن يفكروا. ففرضوا التعاسة على نسائهم.
لكن الزمن كان يتغير، والنساء أدركن بعد أن تعلمن وقرأن أن عزلهن قيدٌ يتناقض مع الطبيعة. وأنها عادة. فقط عادة، يمكن تغييرها، وإدانتها أيضا.
فخلعن النقاب.
---
أنتِ أيضاً قادرة اليوم على خلعه.
اخلعيه أنتِ أيضاً.
واخرجي إلى الحياة.
وكوني.
كوني ما تريدين.
---
حسن البنا عايش هذه الفترة.
كان يرى تغييراً اجتماعياً يتجسد أمام عينيه.
لم يرَ فقط النساء يخرجن من الحرملك. بل رأى المجتمع كله يتغير.
المرأة تخرج لتتعلم، والأسر معها تتغير.
والقيم تتغير.
فزعٌ يتغلغل في نفس حسن البنا. عالمه يتهاوى. يتمدن. الحداثة تمتد إليه. وهو يقف جامداً. لا يريد أن يتغير. لا يريد أن يتمدن. يريد عالمه كما كان.
---
الأهم، أن حسن البنا كان يرى العالم السياسي كما فهمه يتهاوى أما ناظريه.
الدولة العثمانية، الخلافة الإسلامية كما كان يسميها، تنهار.
انقسمت أجزاؤها، تبعثرت، بعضها استقل، وغيرها استُعمر، أو وُضع تحت وصاية.
والدولة العثمانية نفسها، انكمشت لتصبح الدولة التركية.
والدولة التركية، أمله، تلك التي كان يأمل أن ترفع لواء الخلافة، رفضت رفع ذلك اللواء. كانت حكيمة هي الأخرى.
أدركت، لحسن حظها، أن الزمان غير الزمان، وأن المستقبل لدولة حديثة، لا لخلافة عثمانية مهترئة متهالكة.
المستقبل للحداثة.
كمال أتاتورك جاء، ألغى منصب الخلافة، عزل الخليفة، وأحل محل نظام الخلافة نظاماً جمهورياً يقوم على مبدأ القومية الوطنية: "نحن أتراك. ومسؤوليتنا تجاه وطننا. تركيا".
فتهاوى النظام السياسي الذي اعتبره حسن البنا نموذجه.
كان أتاتورك رجلاً طموحاً لديه رؤية للمستقبل، أدرك أن تركيا التي يحلم بها لن تكون قوية ما لم تكن مهيأة للمستقبل، ولكي تكون كذلك، عليها أن تتبنى نظاماً سياسياً جديداً، يُمكِّنها من الدخول إلى الحداثة.
فجعل العلمانية أساس الدولة التركية الحديثة.
فَصلَ الدين عن الدولة.
لم يقل للناس كفوا عن الإيمان بالله.
كل ما قاله، إن الدين مكانه الحيز الخاص.
---
أن تؤمن أو لا تؤمن شأنك أنتَ وأنتِ. شأنكما الخاص.
لكن الحيز العام لا يحكمه الدين. الدين ينظم علاقة الإنسان بالله. لكن علاقة الإنسان بالدولة يحكمها القانون. والقانون يجب أن يكون علمانياً كي تستطيع الدولة أن تتعامل مع مواطنيها بحياد، أياً كان هذا المواطن: مسلماً، ملحداً، سنياً، صوفياً، شيعياً، مسيحياً، يهودياً، رجلاً، امرأة...
المواطنة هي المحك.
لا الدين.
الدين لا يجب أن نقحمه في تنظيم حياتنا السياسية والقانونية والاجتماعية (قوانين العائلة).
مكانه الحيز الخاص. حيث تؤمن أو لا تؤمن. وعندما تضعه في ذلك الحيز، يمكنك بالفعل أن تكتشف معنى الروحانية. إذا رغبت في اكتشاف تلك الروحانية.
---
ولهذا أعتبرُ العلمانية الجوهر الذي لا يمكن الاستغناء عنه لبناء دولة مدنية حديثة.
لا أعتبرها شتيمة. لا أعتبرها بعبعاً يخيف.
بل أقولها ببساطة: أنا علمانية.
علمانية.
ثم أضيف عبارة: علمانية مدعمة باحترام حقوق الإنسان والمساواة بين الجنسين، كي لا نسقط في الفخ الذي سقطت فيه تركيا بعد أتاتورك. كانت علمانية، لكنها لم تحترم حقوق أقليتها الكردية، وكانت شرسة في العقود الأولى في قمعها لحرية التعبير.
---
أتاتورك لم يكتفِ بذلك.
زاد على ذلك بأن أدرك، وكان على حق مرة أخرى، أن التغيير إلى الحداثة كي يتجسد يبدأ مع المرأة.
منع النقاب.
وسن القوانين، الواحد تلو الآخر.
منح المرأة حقوقها السياسية، ثم غير قوانين الأسرة، وحولها إلى قوانين مدنية بعد أن كانت مستمدة من قواعد الشريعة الإسلامية، وتبنى القانون السويسري للعائلة، الذي وإن كان أبوياً في رؤيته وقواعده، إلا أنه مهد الطريق لمفهوم المساواة بين الرجل والمرأة في العلاقات العائلية.
لم يعد من حق الرجل أن يطلق زوجته بكلمات ثلاث: طالق، طالق، طالق.
بل أصبح من حق الرجل والمرأة الطلاق من خلال تقديم طلب إلى محكمة مدنية محايدة.
كمال أتاتورك كان يرى المستقبل بعينيه.
يراه.
وكان يدري أن الدولة العصرية تحتاج إلى أسرة مكونة من رجل وامرأة، وعددٍ من الأطفال، حبذا لو كانا طفلين.
الدولة القبلية في المقابل، تحتاج إلى رجل و4 زوجات وجيش من الأطفال.
لكن دولة القبائل لا تحمي الإنسان فيها.
دولة القبائل تقتل الإنسان فيها.
ولأن المستقبل للحداثة، أرادها أتاتورك معاصرة.
---
وحسن البنا كان يتابع كل هذا.
من بعيد.
من مصر.
يرى العالم كما يتمناه، كما يتصوره، ينهار، يتغير، يتبدل.
وهو لا يريده أن يتغير.
لا يريد المرأة كما أرادها أتاتورك.
لا يريد الدولة كما نظمها أتاتورك.
لا يريد المجتمع والأسرة كما تصورهما أتاتورك.
فخرج علينا ببدايات فكر حزب الإخوان المسلمين السياسي.
هو حزب. وسياسي. يستخدم الدين كغطاء. غطاء فقط.
وفكره في الواقع لم يكن أكثر من محاولة يائسة من شخص متدين للوقوف أمام زحف الحداثة.
لا يريدها دولة حديثة، لا يريدها وطناً لمواطنين متساوين أمام القانون، تماماً كما لا يريدها امرأة حديثة.
أساس ذلك الفكر، كما روج له حسن البنا، يتلخص ببساطة في كلمات ثلاث: "الشريعة، الجهاد، الأمة".
---
في المقال القادم سأبدأ بكلمة الشريعة كما وصفها حسن البنا، ثم أعرض لكما موقفي الذي يتلخص في عبارة "حان الوقت كي نكف عن استخدام الشريعة في تنظيم شؤون الأسرة والحياة".