الحرب المستمرة

الحرب المستمرة

* عبدالباري طاهر
انطفأ لهب الحرب في صعدة وعمران، ولكن جذوه الحرب ما تزال متقدة. ويكون التلويح بالحرب والتهديد بها تعبيراً عن الحرص على استمرارها "فمعظم النار من مستصغر الشرر"!
الخطاب الإعلامي الناري، وتصريحات كبار المسؤولين، والاستعراضات المستمرة للجيش والأمن توحي كلها أننا لم نغادر مواقع المعارك الدامية.
دعاؤنا الأبدي "يا الله بحرب وإلا حراب وإلا مصيبة من الحربـ"، فعندما تصبح الحرب وسيلتنا الوحيدة للوصول إلى الحكم أو البقاء فيه، فلا مخرج منها، وقد يكون الكلام أول الحرب، "فالحرب أولها كلام" كما يقول نصر بن سيار، وخطابنا اليومي الرسمي إصرار على توتير الأجواء، وإشعال الحرائق، فالتكفير والتخوين وجه آخر من وجوه الحرب واستمرارها.
ماذا يعني أن تتصالح مع قوم وتسميهم خونة؟! ماذا يعني أن تمد اليسرى للسلام على المحاربين، ثم تستمر في التنكيل بالمدنيين اختطافاً واعتقالاً ومصادرة؟!
منذ بضعة أشهر أوقفت صحيفة "الأيام" الصادرة في عدن، لنقلها أخبار الاحتجاج الجنوبي ومؤازرته. أوقفت بدون حكم، وضداً على القانون والدستور. لم تكتفِ الدولة بمصادرة "الأيام"، فشنت حرباً دامية على مقرها ومقر أسرة باشراحيل، ودمرت أجزاء منه، ثم اعتقلت "أسير الصحافة اليمنية" هشام باشراحيل ونجليه محمد وهاني رئيس تحرير "الأيام الرياضي"، ولا يزالون في الأسر (فك الله أسرهم)، ويتعرض هشام الصحفي القدير والمسن والمصاب بعدة أمراض، وكلها تجعله عرضة للخطر، للتنكيل.
أما محمد المقالح فمختطف منذ بضعة أشهر، ويقدمه خاطفوه لمحاكمة جائرة في محكمة أمنية واستثنائية (محكمة أمن الدولة)، ثم لا تتوفر له أدنى الضمانات للدفاع عن نفسه، وكيف يدافع مختطف عن نفسه؟
تتوافق السلطة مع المجتمع الدولي، وتحديداً مع الأمريكان، على مكافحة الإرهاب، وتقوم بين الحين والآخر بتوجيه ضربات "استباقية"، وغالباً بالطيران، ويكون الضحايا في الأعم مدنيين آمنين، ويبقى الإرهاب طليق اليدين.
وهناك علائق متينة بين الفساد والاستبداد والغبن الاجتماعي، وبين ازدهار الإرهاب وتفشيه، فالإرهاب لا ينزل من السماء، ولا ينبت من الأرض. إنه الابن الشرعي للأزمات الشاملة في المجتمع؛ للفقر الذي يصل إلى أكثر من 50?، وللبطالة التي تلف غالبية القوى العاملة، وللتضخم وفقدان الأمان، للتعليم المذهبي المتعصب القائم على التخوين والتكفير ومعتقد "الفرقة الناجية". كما يلعب خطاب المسجد دوراً راعباً في التحريض السياسي، وإثارة النعرات الطوائفية والتكفيرية، ويتولى الإعلام جانب التخوين السياسي.
ويقيناً، فإن الخطاب الرسمي منذ حرب صيف 94 مكرس لتهم الانفصال والعمالة بالنسبة للجنوب. فالجنوب انفصالي وعميل بالفطرة، وشمال الشمال ملكي وأهله إماميون. أما المعارضة السياسية فرجس من عمل الشيطان، أعداء للوطن، وحاقدون، ويكون الحاكمون -والحاكمون فقط- هم الديمقراطيين والوحدويين والوطنيين الحريصين على العباد والبلاد.
المأزق الحقيقي أن اليمن واليمنيين قد فشلوا في بناء دولة العصر الحديث، دولة المؤسسات والنظام والقانون، وتماهت الدولة وامتزجت بالقبيلة، وهي تركيبة أهلية تنفي الدولة.
وإذا كانت القبيلة بقيمها وتقاليدها وأعرافها "غير موحِّدة" (بكسر الحاء) أو موحَّدة (بفتحها)، فإن التمترس بالسلاح قد ضاعف من نزوعها المحموم للحرب. فالحرب للقبيلة وسيلة إنتاج ومصنع للثروة، وتأبيد لامتلاك السلطة. وهو ما يفسر الحروب المستدامة في اليمن منذ عدة قرون. فالحرب أرقى عمل رجولي وبطولي، وزراية القبيلة بالحرف والمهن والتجارة والزراعة وكل الأعمال اليدوية آتية من الإرث الوبيل الذي من أجله قتل قابيل هابيل كما في التوراة والقرآن.
الإصرار العنود على إبقاء جذوة الحرب مشتعلة تحت الرماد، نابع من الشعور بالعجز المدقع عن الاستمرار في الحكم بغير السلاح والتلويح به. فسلطة 7/7 لم تأتِ إلا بالحرب، والحرب وحدها. والقوة بالنسبة للقبيلة الوسيلة الوحيدة والعظمى للانتصار والافتخار.
لا تتقن القبيلة الحرب إلا على نفسها وإخوتها.
وتجمع مذحج فيرئسوني  لأبرأت المناهل في معدي
أو قوله:
كم أخ لي صالحٍ  واريته بيدي لحدا
عمرو معدي كرب الزبيدي
فالحكمة القبائلية تقول "أنا وأخي على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الأجنبي"، وليس الأجنبي غير الأخ في الوطن أو الدين.
بدأ العالم يستشعر خطورة الأوضاع في اليمن. ويدرك العالم أهمية اليمن ومكانتها ربما أكثر من حكامنا، فمبادرة المعهد الديمقراطي الأمريكي آتية من إدراك الولايات المتحدة الأمريكية استحالة حسم الصراع في اليمن "بالقوة"، وأن الانتصار بالسلاح في وجه المطالب الشعبية مستحيل.
فالحرب في صعدة، والاحتجاجات الجنوبية المتصاعدة هي الثمرة المرة لانتصار حرب 94. وستظل هذه الحرب الكريهة تلد الحروب تلو الحروب، والاحتجاج تلو الاحتجاج، حتى يثوب الحكم إلى رشده، وينفتح قولاً وفعلاً على الحوار ويقبل بالآخر: الصعدي أو الجنوبي أو اليمني أياً كان، فلا انتصار في حرب "الإخوة الأعداء". والحروب التي شهدتها اليمن منذ فجر الثورة اليمنية (سبتمبر وأكتوبر)، لم تحسم ولم تنطفئ نيرانها إلا بالتصالح، والوحدة المتغنى بها زوراً وبهتاناً لم تتحقق إلا بالتصالح والتآخي والتشارك، وكل ما فعلته وتفعله الحرب الإجرامية هو تدمير النسيج المجتمعي، وخلق فتن وعداوات تبدأ ولا تنتهي.
تدثر الاستعمار القديم والجديد في حربه ضد شعوب العالم، بالتمدين والتحضير، والقضاء على التوحش والهمجية، وكان فعله ذروة الهمجية والتوحش، وما يجري في فلسطين شاهد على الجريمة الاستعمارية المستمرة.
أما بوش وبن لادن، وهما وجهان لعملة واحدة، فقد قسما العالم إلى خير وشرير، وكان الثمرة الكريهة ما جرى ويجري في أفغانستان وباكستان والصومال والعراق.
أما حكامنا الأشاوس فيحتكرون الوطنية والوحدة، وحتى الديمقراطية "الموءودة"، ثم يشنون الحروب لحمايتها والدفاع عنها.
يرى روبرت رايت أن "فكرة الحرب على الشر هي أشد الأفكار خطورة، وقد تحولت إلى حرب عالمية تقودها أمريكا. وتكمن خطورتها في أنها أسطورة من عصور الظلام" (أبو بكر السقاف).
الحروب الداخلية المستدامة في اليمن قد ازرت بما فعله الاستعماريون: القدامى والجدد، وهي وسيلة مثلى للاحتفاظ بالحكم واحتكار المال والجاه والقوة وتكميم الأفواه، وهي (أي الحرب) في الوقت نفسه المشجب الذي نعلق عليه عجزنا عن البناء والتنمية والإصلاح.