محاكمة الجغرافيا وإعادة التاريخ

محاكمة الجغرافيا وإعادة التاريخ

* محمد شمس الدين
ما تعرض له الناشط السياسي والصحفي محمد المقالح من إخفاء قسري وتعذيب في سجون السلطة، يؤكد أن النظام الحالي غير مؤهل لإدارة البلد، وأنه يخفي العديد من العُقد التي بدأت تتكشف مع مرور الزمن، فتعامله مع قضايا المحافظات المسالمة التي يفتقد أبناؤها عرق النخيط والتعصب القبلي أصبح يتجلى بوضوح في السنوات الأخيرة.
العُقد التي ظل الحاكم يخفيها مثل من سبقوه من بيت حميد الدين وغيرهم من الأئمة الذين حكموا البلاد بالفساد والإذلال والتجهيل، وجعلوا التنكيل والقمع ضد أبناء تعز، إب، الحديدة، وريمة ضمن أولوياتهم، معتقدين أن أي صوت يرتفع من هذه المناطق يجب أن يقمع ويهان إن لم يقتل أو يعزر، كونهم أجراء لا يحق لهم المشاركة في الحكم أو مجرد الشكوى مما يتعرضون له من ظلم.
اليوم يتكرر المشهد بكل تجلياته وكأن الثورة لم تقم، ففي الوقت الذي يتم التعامل بندية واحترام مع قيادة التمرد وقطاع الطرق ومن يرفعون السلاح في وجه الدولة ويعتدون على الجنود أثناء أدائهم لمهامهم، وكذلك الذين سلموا معسكرات بكل معداتها وأفرادها للمتمردين الحوثيين، مستندين في خيانتهم على دعم القبيلة وجينات النخيط، يتعامل النظام مع إب وتعز كميدان لبطولاته الخارقة، فتنكيل بالمقالح وتفرغ لمحاكمة الصحفيين هي الميدان الجديد للنظام على اعتبار أن التعذيب والتنكيل بحق أبناء المناطق المسالمة سيعيد للدولة الهيبة التي مرغت تحت أقدام النافذين.
تعذيب المقالح والحكم بسجن الصحفية أنيسة محمد علي عثمان هو استهتار بأبناء تعز وإب ، وينفي عن الحاكم ما يتغنى به المطبلون من تحليه بالجانب الإنساني في التعامل مع خصومه، وهي الصفة التي ظل كثيرون يراهنون عليها كميزة وحيدة، ولكن أية قيمة إنسانية هذه التي تخضع لمعايير الربح والخسارة وردة فعل القبائل والمناطق التي ينتمون إليها؟!
استهداف المحافظات المسالمة والتشكيك بنوايا أبنائها والانتقاص من حقوقهم ليس بجديد على أبناء تلك المحافظات، فهم متهمون مهما كان حجم التنازلات التي يقدمونها، وهم خونة مهما كان وفاؤهم. فتعذيب المقالح كأول حالة مشهودة في الفترة الأخيرة، وكذلك التجريح الذي تعرض له الدكتور عبدالكريم الإرياني لسنوات عديدة من قبل صحف مقربة من السلطة والتشكيك بوطنيته بل ونسبه ودينه هي ضمن العقد التي يفرزها الحاكم ضد أبناء المحافظات المستباحة.
أكاد أجزم أن الأجهزة ما كانت لتقدم على إخفاء المقالح وتعذيبه بتلك الطريقة الوحشية لو لم يكن من المحافظات المستباحة التي يتعامل معها النظام بدونية مفرطة فيما يقدم التنازلات والمال لمعارضيه ومن يرفعون السلاح في وجه الدولة وفقا لمناطقهم.
التعامل مع الأفراد والجرائم وفقاً لنفس مناطقي وقبلي أصبح سمة واضحة في السنوات الأخيرة، فقد قادت السلطة حملة عسكرية معززة بدبابات وراجمات الصواريخ لإطلاق سراح أحد الضباط في مديرية شرعب دون أن نرى تحركاً مماثلاً في مناطق أخرى. كما قامت عام 1997 بحملة اعتقالات واسعة واقتحام للمنازل مستخدمة كافة أنواع الأسلحة ضد الناشط عبدالله الميتمي ومجموعة من الشباب في مدينة إب القديمة طالبوا بحقوقهم. ولعل الجميع يذكر أن 17 من أفراد عصابة السحول قد تم إعدامهم قبل ما يقارب عامين، ومع مباركة الجميع لحكم الإعدام، غير أنها ليست العصابة الوحيدة في البلاد التي مارست النهب والقتل. ولمزيد من التأكيد أنها حرب ضد الجغرافيا وليست حرباً ضد الخارجين على القانون كما يدعي النظام، فقد حكم على حسن زيد بن يحيى بسجن 10 سنوات مقابل 15 سنة على وزير خارجية الحوثيين المقيم في ألمانيا الذي يشتم النظام ويصفه بأقذع العبارات!
محاكمة الجغرافيا تهدد النسيج الاجتماعي وتؤذي الجميع حالياً وستؤذي الحاكم مع الوقت. ألم تتم محاكمة أحد أبناء تعز محاكمة مستعجلة لقتله أحد أبناء مأرب، في حين أن قتلة الدكتور القدسي ما زالوا طلقاء؟!
نحن نحاكم ونعذب لمجرد أننا نشكو من الظلم والخوف على هيبة الدولة التي ضاعت تحت أقدام القبيلة!
ومع أن محاكمة الجغرافيا قد أصبحت شائعة، وما هذه إلا نماذج بسيطة، نذكرها للتذكير بحرج وخوفاً على وحدة النسيج الاجتماعي، غير أن تلك المحاكمات يمارسها الحاكم بنوع من الفخر والحذاقة التي أصبحت مفضوحة.
لم تكن مشكلة المقالح أنه نقل وقائع الحرب في صعدة أو حتى تعاطف مع الحوثيين، بل إن مشكلته أنه من محافظة يرى الحاكم أنها مستباحة، فالتعذيب في حق المناطق المسالمة لم يكن بجديد، بل هو استمرار لحكم الأئمة، وبذات البشاعة، فبعد الفشل في حرب صعدة وفقدان هيبة الدولة في المناطق القبلية، وانقلاب حلفاء النظام في محافظة أبين، وعجز الدولة عن إيقاف الجماعات المسلحة.. يراد تعويض هذه الهيبة في المناطق المسالمة والأشخاص المسالمين حيث عوض أسلافهم فشلهم.
mshamsaddinMail