الثورتان اليمنيتان (سبتمبر، أكتوبر) (1-2)

جدلية السياسي، والتاريخي في الثورة اليمنية:

في واحدة من كتاباتي البحثية عن ثورة 26 سبتمبر 1962م، التي احتواها كتاب "ثورة 26 سبتمبر، المؤتمرات السياسية المعارضة الأولى 1962-1967م"(1)، توصلت إلى اقتناع راسخ من خلال قراءاتي للتاريخ السياسي والاجتماعي اليمني، إلى أن اليمن الإمامي (شمال اليمن) بحاجة إلى أكثر من ثورة واحدة، وأن ثورة واحدة لا تكفي، بعد قرون سالبة من الركود السياسي، والاجتماعي، والتخلف الاقتصادي المديد، وهو ما ظهر بعد قيام ثورة 26 سبتمبر 1962م بصورة واضحة في كثافة حضور التاريخ في أسوأ تجلياته الماضوية تخلفًا (ثيوقراطية، وأوتوقراطية) ولا مثيل لهما، وكأننا أمام تاريخ مشبع بجنون عظمة الاستبداد، في صورة ثلاثية سلطوية تاريخية تمثلت في: فردية معصومة، وعصبية، ومركزية مقدسة، ثلاثية استبدادية دافعت عما تعتقده حقها المقدس في الاستمرار في الحكم طيلة ما يقارب اثني عشر قرنًا، متقطعة، لم تترسخ خلالها فكرة وقضية بناء الدولة ووجودها، بعد أن توقف التاريخ الاجتماعي السياسي الإمامي، والحركة الاجتماعية، للمجتمع، وللسياسة، عند لحظة رسوبية بدائية هي أقرب إلى ما قبل التاريخ القديم، أو القروسطي (الكهنوتي)، إذ ركدت علاقات الإنتاج وتجمدت، وتحجرت قوى الإنتاج لقرون طويلة، وكأن التاريخ لم يتحرك خلالها خطوة واحدة إلى الأمام -باستثناءات تاريخية محدودة، الدولة الصليحية، والرسولية، والطاهرية تحديدًا/ وقبلها جميعًا، دول يمنية مستقلة؛ الزيادية، واليعفرية- وهي سنوات منتزعة قسرًا من تاريخ الإمامة، وقبلها، في تحالفها مع المشيخة القبلية، إضافة إلى جمود سياسي، اجتماعي، تاريخي (وحدة الإمامة، بالدين والمذهب، وبالقبيلة)، فضلًا عن الحروب المتكررة في تاريخ الإمامة السياسي، والاجتماعي، مما أسهم أكثر في تعويق أية إمكانية لحدوث أي تطور في بنية المجتمع الفوقية، والتحتية بالضرورة، أصبح معها -لاحقًا- الحديث عن خصوصية استقلال الإمامة كدولة عن الإمبراطورية العثمانية في 1918م، ضربًا من السخرية، والهذيان الأيديولوجي الذي لا معنى له على صعيد الواقع السياسي العملي، بخاصة أن الاستقلال الشكلي الزائف عن العثمانيين لم يحدث أي أثر إيجابي ولو محدود لصالح تجديد بنية المجتمع، بقدر ما أعاد إنتاج أسوأ لحظات الحضور التاريخي في أبشع صوره الخاصة (الخصوصية)، الثيوقراطية والاستبدادية(2). نقول ونؤكد على ذلك دون أية استهانة أو تقليل من كفاح الشعب اليمني تاريخيًا ضد الغزو الاستعماري الخارجي، بما فيه مقاومة الاحتلال العثماني لليمن، بخاصة مع الاحتلال العثماني الأول.

وفي هذا السياق من المهم الإشارة والتأكيد على أن الإمامة، ونظام حكمها الثيوقراطي، المذهبي، السلالي، المشيخي القبلي، قد أسهم في تدمير الوعي الوطني، والفكرة الوطنية، وعدم حضور معنى الوطن في وعي قطاع واسع من الشعب اليمني،

كما أن حكم الإمامة الذي ارتكز على ثلاثية؛ الفردية المعصومة، والعصبية، والمركزية المقدسة (ثنائية الإمامة، والمشيخة القبلية)، قد أدى في امتداده السياسي التاريخي الاستبدادي، إلى عدم الإحساس والوعي بوطأة الاحتلال الاستعماري البريطاني على جنوب الوطن، بقدر ما خفف من ثقل ووطأة الاحتلال العثماني في وعي الشعب (قطاع واسع من الشعب في الشمال) نتيجة ممارساته البدائية والوحشية، التمييزية مذهبيًا، وسياسيًا، واقتصاديًا تجاههم، وهذه الحال استمرت بجميع تفاصيلها حتى قيام ثورة 26 سبتمبر 1962م وتأسيس الجمهورية الأولى (62 سبتمبر- 5 نوفمبر 1967م).

ومن هنا قولنا إن شمال اليمن كان بحاجة إلى أكثر من ثورة، وأن ثورة واحدة لا تكفي لاجتثاث ذلك الركام الاستبدادي التخلفي التاريخي، والوقائع والحقائق المستمرة حتى اليوم تؤكد هذه الفكرة، وهذا المعنى، وليس أدل على ذلك مما يحصل اليوم، في صورة عودة "الهاشمية السياسية"... وفي جنوب اليمن، حققت ثورة 14 أكتوبر 1963م الاستقلال الوطني الكامل والناجز بعد طرد الاستعمار البريطاني في 30 نوفمبر 1967م، وإقامة دولة نظام وقانون، وتوحيد ثلاث وعشرين سلطنة، ومشيخة، وإمارة، في سلطة دولة واحدة، تحت سلطة حكم الحزب الواحد (الشمولي)، بعد أن حرمت التعددية الحزبية والسياسية بدستور غير مكتوب، كما قامت في الواقع بإجراءات سياسية اجتماعية واقتصادية لصالح الفئات والطبقات الفقيرة، ولصالح قوى الجديد السياسي والاجتماعي بعد أن قلصت دور ومكانة رموز البنى الاجتماعية والسياسية التقليدية (السلاطين، الأمراء، المشايخ)، وأضعفت دور القبيلة في الحياة السياسية والاجتماعية، بفعل أمرين:
الأول: كان لعلاقة التبعية، أو الوحدة العميقة التي ربطت بين البنية السلاطينية والمشيخية في جنوب البلاد، مع السلطة الاستعمارية البريطانية طيلة قرن وثلث القرن، دور أساسي في تكريس تبعيتهم للاستعمار والذي أوجزته ولخصته أدبيات الحركة السياسية الوطنية الديمقراطية المعاصرة، بما سمته "الأنجلوسلاطينية"، أي وحدة وتكامل العلاقة بين الاستعمار البريطاني، والقوى السلاطينية والمشيخية القبلية، والتي تكرست عبر اتفاقات ومعاهدات واستشارات، حدت وقيدت من حركتها السياسية، بعد أن ربطت البنية القبلية المشيخية السلاطينية بالاستعمار مصالحيًا (ماليًا) في صورة مرتبات شهرية لهم ولأعوانهم، وميزانيات جعلت من ارتباطهم بالمصالح والسياسات الاستعمارية بلا حدود، ولا يستطيعون منها فكاكًا، وهذه الظاهرة "الأنجلوسلاطينية" هي التي ساعدت وهيأت الأرض السياسية والاجتماعية أمام السلطة الوطنية الاستقلالية الجديدة في حصار وضرب البنية المشيخية القبلية والسلاطينية في واقع الممارسة الاجتماعية.
والأمر الثاني: تمثل في صورة المشروع الأيديولوجي/ السياسي الوطني والتحرري لدولة الاستقلال في اجتثاث بنية النظام القديم، وفي تكريس حضور سلطة القانون على الجميع، فقد أصدرت دولة الاستقلال الوطني 30 نوفمبر 1967م، قانونًا يمنع ظاهرة الثأر، وحلها بصورة قانونية ضمن آليات جديدة يفرضها النظام السياسي والإداري والقانوني، ومنع حمل السلاح بقانون، وفرضت سلطة حكم الحزب الواحد "الشمولي" ضمن دولة حزبية علاقتها بالتاريخ محسوبة بنظام وبدقة، وبما يحافظ على النظام من تدخلات التاريخ وضغوطه السالبة على أيديولوجية الحزب، الذي أقام قطيعة جدية مع الماضي، والتاريخ الثيوقراطي، ولذلك بقي حضور التاريخ في قلب التجربة السياسية والتعليمية والثقافية والمدنية ممنهجًا ومدروسًا، على عكس الحالة في شمال اليمن، وبخاصة بعد وراثة المشيخة القبلية، للإمامة، وللجمهورية، حيث المشيخة القبلية تكلمت أكثر مما يجب، وقالت رأيها في السياسة، والسلطة، والدولة، من موقع صاحب القرار طيلة أكثر من خمسة عقود بأكثر مما يجب، حيث كانت القوى المقررة في الشأن السياسي العام؛ تتمثل في "المشيخة القبلية التجارية، والمسلحة، مع العسكر" تساندهما أيديولوجيًا في ذلك الجماعة السياسية الدينية الوهابية، فقد حكمت المشيخة القبلية المسلحة شمال اليمن (سابقًا) طيلة المرحلة الجمهورية، بخاصة من بعد قيام انقلاب جمهورية 5 نوفمبر 1967م، وحتى مرحلة دولة الوحدة، وبرز ذلك الدور بصورة أكبر بعد حرب 1994م في صورة ثلاثية المشايخ، والعسكر، ورجال الدين (أصحاب الفتوى الحزبية/ الحربية) ضمن معادلة "شيخ الرئيس ورئيس الشيخ".

إن شيخ القبيلة، تحديدًا من بعد توقيع اتفاقية جدة مارس 1970م مع السعودية، تحول إلى شيخ ومكلل بتاج الحصانة، وهي ثقافة امتيازية لرموز المشيخة القبلية دون سواهم من فئات، وشرائح، وطبقات المجتمع... ثقافة حصانة تأسست من إرث أيديولوجي سياسي تاريخي (إمامي، مشيخي) يحتكم للأعراف، وليس للقوانين، والأنظمة والدساتير،

كما تأسست من طول بقائهم في السلطة، في المرحلة الإمامية كتابعين لها (ذراعها الحربية)، وفي المرحلة الجمهورية كحكام مباشرين في قمة السلطة، ترسخت خلالها أيديولوجية المشيخ القبلية؛ كنمط حياة عامة سائدة، لإدارة السياسة، والثقافة، والمجتمع، والدولة، وهو ما جعل شيخ القبيلة أعلى مقامًا ومرتبة اجتماعية وسياسية، وحتى "وطنية"، من مقام الوزير، ورئيس الوزراء، فلا عقوبة أو جزاء وفقًا للقانون السائد، على شيخ القبيلة في حالة اعتدائه على الوزير، أو رئيس الوزراء، لأن العقوبة والجزاء سيعتبران موجهين ضد القبيلة، والطائفة، باعتبار الشيخ رمزها وعنوانها، ومن غير المعقول معاقبته، لأن القبيلة ملحقة به، وهو ملحق بها، ورمزها في الوقت نفسه، ففي مجتمع القبيلة، الأعراف والتقاليد، هي مصدر الشرعية الوحيد، والوقائع في ذلك عديدة، إلا أن يقبل الشيخ المبجل مختارًا وبرضاه بـ"التهجير" القبلي؛ بالكباش، أو الأثوار، والجمال، هذا إن قبل! وهناك عشرات الوقائع المأساوية يمارسها شيوخ القبيلة عسكريين، ومدنيين، وتجارًا طارئين على التجارة، والمال، والاقتصاد، في المرحلة الجمهورية، ولا يطالهم عمليًا أي جزاء أو عقاب، وهو من ثمار أو حصاد المرحلة النوفمبرية/ الجمهورية في ظل دولة المشيخ القبلي، أو الجمهورية القبلية، حيث "تلغى ثقافة الحصانة التي ترتكب بهديها وحمايتها الجرائم، مبدأ المساواة بين المواطنين"(3)، وهذه الممارسات تكشف إلى أي مدى أننا بعد الثورة، وبعد الوحدة بالحرب، وحتى اليوم، مانزال بعيدين عن النظام الجمهوري، وكأن سبتمبر أزالت حكم "البطنين" لتستبدله، وتحديدًا من بعد انقلاب 5 نوفمبر 1967م، وطيلة ما يقارب خمسة عقود، بحكم وسلطة "النهدين" (المشائخ والعسكر).
وكل ذلك، هو ما يفسر -ثانية- عودة "الهاشمية السياسية في جلبابها المعاصر".

إن ضعف الدولة بالمعنى الحديث، إن لم أقل غيابها في اليمن الحديث، والمعاصر، على وجه الخصوص، له جذره التاريخي، أو حضوره التاريخي في خصوصيته اليمنية، الإمامية/ المشيخية القبلية التي تكرست -على الأقل في شمال البلاد- طيلة قرون سالفة، وهي مشكلتنا السياسية والتاريخية، ليس مع قضية بناء الدولة المدنية الدستورية الحديثة، وسلطة القانون، بل ومع قضية، وفكرة المساواة، والمواطنة، وغلبة ثقافة الرعوي "الريعية" على ثقافة المواطن، والمواطنة حتى اللحظة. "إذن ضعف الدولة -في تقديرنا- ينتج عن تدخل وهيمنة رموز المجتمع القبلي، وسيطرته، لامتلاكها القوى السياسية، والعسكرية، خارج إطار الدولة -جيش أو ميليشيات موازية لجيش الدولة- (وحرب الحصبة 2011-2012م نموذج صارخ لذلك -الباحث)، في محاولة لانتزاع دور الدولة، وإبهات هيمنتها لصالح القبيلة (المشيخية القبلية تحديدًا -الباحث)، التي تحاول عبر المنظومة الثقافية التقليدية برموزها، أن تقف في قمة هرم السلطة، وفي رأس القبيلة، كي تجمع بين متناقضين، لإضعاف مهام، ودور الدولة، حتى يفرض بالتالي حكم العرف والعادة على حساب النظام، والقانون، والتشريعات، في الدولة، وهنا تكمن أزمة الثورة كوسيلة للتغيير"(4). ومن هنا في تقديري تكمن أزمة الثورة باعتبارها تغييرًا اجتماعيًا، وتغييرًا ثقافيًا، حيث الهيمنة والسيادة حتى اللحظة للقيم، والمفاهيم الثقافية التقليدية الماضوية (المشيخية، القبلية، المذهبية، الطائفية، المناطقية، السلالية)، وبقوة وبفعل قوة السلطة، وأدواتها وآلياتها مع الأسف، أي أننا نقلص ونضرب مواقع المدنية، والحداثة، ونفرض ونكرس بدلًا عنها مواقع وقوى التخلف، وبقوة السلطة وأدواتها، وآلياتها. وهنا تكمن أزمة، ومشكلة الثورة، والتغيير الاجتماعي، والثقافي في بلادنا طيلة الحقب الماضية.

ومن هنا كذلك قولنا وتأكيدنا أن اليمن اليوم بحاجة إلى أكثر من ثورة، بل إلى ثورة مستمرة مفتوحة. ولذلك قامت ثورة الشباب لإعادة الاعتبار للجمهورية، والدولة، على قاعدة المواطنة المتساوية. وبعيدًا عن "ثقافة الحصانة"، التي بررت وشرعنت عملية التمييز الاجتماعي والوطني. ويمكننا القول إن ثقافة الحصانة للقوى المشيخية القبلية، هي الوجه الآخر "لنظرية الإذلال" لجميع السكان وفق ما جاء في أحد مقالات د. أبو بكر السقاف. إن قرونًا من الركود لن تنجلي في لحظة.

الماضي الذي تكدس لن يزول بدون مقاومة (بدون أكثر من ثورة -الباحث)، إنها أعراف وتقاليد وتركة ثقيلة وأساليب وردود وتصورات وعادات متوارثة، عداك عن فساد غير محدود، ودول ناقصة، ومجتمعات ملوثة حتى اللب، كل ذلك لن ينتهي بالأمل، ولا بالتمني ولا بالشعارات(5)، وهو ما جعلني أقول إن ثورة 26 سبتمبر 1962م وحدها لم تكن كافية، وإن الثورة على يمن الإمامة بحاجة إلى أكثر من ثورة، هذا إذا أدركنا أن البنية السياسية الذاتية للثورة كانت بسيطة وهشة ودون مستوى التحديات الداخلية، والخارجية (الإقليمية والدولية)، فقد ورثت ثورة 26 سبتمبر 1962م ميراث تاريخ مثقل بأكثر من عشرة قرون من التخلف السياسي والاقتصادي والثقافي والاجتماعي، وفي واقع غياب الحد الأدنى مما يمكن تسميته اقتصادًا أو بنية اقتصادية، ودون أية مقومات لمعنى الدولة، المادي، والذهني الفكري، والمؤسسي، في واقع الممارسة، إذ الدولة كانت مركزة ومختزلة في شخص الإمام واسمه "أنا الدولة والدولة أنا" -على حسب تعبير لويس الرابع عشر- كل شيء بيده، المال، القضاء، الحكومة، التجارة، حتى أمر دخول أي فرد أو خروجه من وإلى اليمن مرتبط بأمره الشخصي المباشر، أو كما يقول د. فاروق عثمان أباظة "هو رئيس القضاء، ورئيس الإدارة، وقائد الجيش، ويعين كل الموظفين في مختلف الرتب، وخزانة الدولة تحت سيطرته الشخصية، ويعتمد كل المصاريف بندًا بندًا، والجهاز الإداري المحدود معد فقط لتنفيذ أوامره"(6). وبهذا المعنى كان الحضور التاريخي حاضرًا ومتجسدًا وقائمًا في خصوصية أوضاع ما بعد ثورة 26 سبتمبر 1962م، وهي قطعًا خصوصية يمنية لا نجدها ماثلة وحاضرة في مصر، والعراق، وفلسطين، والشام (سوريا، لبنان)، وهي دول كانت واقعة وخاضعة للاحتلال العثماني، بل هي خصوصية يمنية شمالية، إمامية، لا نجدها في أنظمة حكم السلاطين والأمراء في مجتمعات تلك المنطقة، أي في جنوب الوطن، قبل السيطرة البريطانية، ولا بعد الاحتلال الاستعماري لجنوب اليمن. ولذلك ترى بعض الكتابات والأبحاث -وأنا أتفق معهم- أن القبيلة من خلال شيوخ القبائل حضرت بقوة في المشهد السياسي اليمني، بل وفي قمة السلطة السياسية عوضًا عن الإمامة، أو في مكانها، أو بديلًا عنها، بعد قيام الجمهورية، وأصبحت حاضرة بأكثر مما كان عليه الوضع في ظل الإمامة، وكأن القبيلة، وشيوخ القبائل تحديدًا، قد تمكنوا من وراثة الإمامة في كل امتيازاتها السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، ارتفع مقامها إلى الدرجة الأولى في سلم التراتبية الاجتماعية، "وأن الجمهورية التي أعلنت في سبتمبر 1962م استمرار بأكثر من معنى للمملكة المتوكلية (بخاصة بعد انقلاب 5 نوفمبر 1967م -الباحث)، بل إن حضورها الموضوعي في واقع اليوم هو بفعل الميراث الثقافي والاجتماعي، وفي أسلوب الحكم وآلياته، ولا سيما من حيث علاقته بالقبيلة"(7). وفي تقديري إن هذا هو أسوأ حضور تاريخي لما يمكننا تسميته بالخصوصية اليمنية، وتكرار حضورها في الواقع(8).

الهوامش:

(1) الكتاب من إصدار مركز الدراسات والبحوث اليمني، صنعاء، ط أولى، 2001م.
(2) هناك من الباحثين من يرى في خروج العثمانيين من اليمن بعد هزيمتهم في الحرب العالمية الاولى 1918م نكبة أحاقت باليمنيين "فقد ادعت الإمامة عقب زوال حكم العثمانيين العتيد...، أن جميع منشآت الأتراك في اليمن، ومخلفاتهم، ومعداتهم، الضخمة ملك لها تتصرف بها كيف تشاء، مما لم يحدث مثله في ولاية من الولايات التركية... وأن الأوضاع الاجتماعية والسياسية، والتعليمية، وطرق إدارة الحكم والمستشفيات، والصحة، كانت أفضل حالًا مما آلت إليه الأمور في المرحلة الإمامية الاستقلالية"، انظر حول ذلك كتاب "اليمن المنهوبة والمنكوبة"، مجهول المؤلف، ص١٣، وكذلك د. فاروق عثمان أباظة "الحكم العثماني في اليمن 1882-1918م"، ص430-433، الهيئة المصرية العامة للكتاب، نقلًا عن كتاب قادري أحمد حيدر "دراسات فكرية وثقافية"، ص143، إصدار اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، صنعاء، ط أولى، 2009م.
(3) د. أبو بكر السقاف، كتاب "دفاعًا عن الحرية والإنسان"، ص24، إعداد: منصور هائل، إصدار منتدى الجاوي الثقافي رقم (1)، ط أولى، 2012م.
(4) صالح محمد مسعد (أبو أمجد)، صحيفة "الوسط"، صنعاء، الأربعاء 27/6/2012م، العدد رقم (389)، ص5.
(5) الشاعر عباس بيضون، صحيفة "السفير" اللبنانية، تاريخ 30/12/2011م، العدد (12073).
(6) د. فاروق عثمان أباطة، مصدر سابق، ص64.
(7) محمد عبدالسلام "الجمهورية بين السلطنة والقبيلة"، مطبعة، الامل" القاهرة، ١٩٨٨م، ص١٠٥. والكتاب للدكتور أبو بكر السقاف، نشر لاحقًا، يحمل اسمه، عن منتدى الجاوي.
(8) لم يكن هناك أي استعداد أو مصلحة سياسية لدى الإقطاع السياسي، وزعماء المشايخ، ولا عند بقايا الأحرار، والعسكريين الكبار، إضافة إلى القيادة المصرية (العسكرية، والسياسية)، في أن يكون للضباط الأحرار وتنظيمهم أي دور في قيادة الثورة، وهو ما اتضح من خلال الأسبوع الأول للثورة، وتحويل مجلس قيادة الثورة، إلى مجلس رئاسة، وتعبئته بزعماء المشايخ والقوى السياسية التقليدية بأكثر من 12 شيخًا، ناهيك عن رفضهم جميعًا، وبخاصة القيادة المصرية في اليمن، أن يكون أي دور للأحزاب السياسية الديمقراطية في تسيير أو قيادة الثورة، حتى إنه أصدر قانون في عام 1964م يحرم الحزبية، ويجرمها، حتى إن الأسماء العشرة من القيادات الطلابية الحزبيين الذين وصلوا من القاهرة للدفاع عن الثورة، جرى تهميشهم، ولم يسمح لهم بأي دور سياسي حقيقي في قيادة الثورة، بتوصية من د. عبدالرحمن البيضاني. وكما يقول د. عبدالملك المقرمي: "لم تكن الناصرية (المقصود القيادة المصرية في اليمن -الباحث) تسعى إلى دعم الوجود السياسي المنظم لحركة سياسية مستقلة بذاتها، حتى لو كانت دائرة في فلكها"، د. عبدالملك المقرمي، "التاريخ الاجتماعي للثورة اليمنية: رؤية سوسيولوجية لتحول بناء القوة"، ص351، دار الفكر العربي المعاصر، بيروت، ط أولى، 1991م، وهي مقدمات كانت مدروسة سياسيًا، وأيديولوجيًا، لتعظيم الدور السياسي لزعماء مشايخ القبائل، وموقع القبيلة في العملية السياسية الجارية آنذاك، "ففي مطلع أكتوبر 1962م أعلن ما سمي مجلس الدفاع الأعلى المكون ممن سموا بشيوخ الضمان (...)، أما مهمة هذا المجلس فهي "حماية الحدود"، أي الدفاع عن أمن البلاد، وبموجب هذا القرار فإن أعضاء المجلس (وجميعهم من كبار شيوخ القبائل -الباحث) سيكونون برتبة وزراء، لهم مرتبات الوزراء (...)، وكان هذا القرار ثبت في الإعلان الدستوري مادة 10 الذي أعلن في 31 أكتوبر 1962م (...). والتفنن في إيجاد المجالس الخاصة بهم، والممثلة لمصالحهم الطبقية المحدودة... وإشراكهم في هيئات الدولة المركزية والمحلية (...)، مصحوبًا بالانصراف عن القوى الجديدة وعن الجماهير الشعبية ذات المصلحة في الثورة"، د. محمد علي الشهاري، كتاب "في مجرى الصراع بين القوى الثورية والقوى اليمينية منذ قيام ثورة 26 سبتمبر 1962م حتى قيام حركة يونيو 1974م"، ص63-64، ط 1990م. كما حصل الكثير من كبار زعماء المشايخ، والإقطاع السياسي على مواقع هامة في الحكومة وغيرها، وجرى تشكيل وزارة لشؤون القبائل، كان مطيع دماج أول وزير لها، وهو من القيادات الوطنية المستنيرة المشهود لها بالنزاهة والوطنية، وهي اليوم تحت مسمى "مصلحة شؤون القبائل"، بميزانية تقدر بأكثر من أربعة مليارات ريال، وبذلك انتقلنا من حالة "ثنائية الإمامة، والقبيلة" في المرحلة الإمامية، إلى "ثنائية القبيلة والدولة" أو "دولة المشيخ القبلي"، في المرحلة الجمهورية، وهي أحد أسباب قيام ثورة الشباب والشعب الجارية. وهي قطعًا واحدة من مصاعب تحولات الثورة اليوم. ولذلك لم يطرح سؤال شرعية النظام، سياسيًا، واجتماعيًا، ووطنيًا، وحتى ديمقراطيًا، طيلة ما يقارب الخمسة عقود المنصرمة، بسبب اندماج البنية الاجتماعية التقليدية (زعماء المشايخ والقبيلة) بالدولة، فهما معًا اشتركا في قمع المجتمع، ومصادرة الدولة الوطنية الحديثة. ولا يمكن فهم كل ما سبق إلا باعتباره حضورًا للتاريخ في أسوأ ما فيه من خصوصيات مانزال نعاني منها على صعيد الممارسة في قمة السلطة، وفي الواقع (عدم الاندماج الاجتماعي الوطني)، إشكاليات لا بد من حلها وطنيًا، وثوريًا، وبصورة ديمقراطية.